فقدان الذاكرة النفسي: تعريفه، أسبابه، وأبعاده النفسية والعصبية

فقدان الذاكرة النفسي (Psychogenic Amnesia) هو حالة اضطرابية تتميز بفقدان مؤقت أو دائم للذاكرة نتيجة عوامل نفسية وعاطفية، وليس بسبب تلف عضوي في الدماغ أو إصابة جسدية مباشرة. يُعرف هذا النوع من فقدان الذاكرة أيضاً بـ”فقدان الذاكرة التحولي” أو “فقدان الذاكرة النفسي الوظيفي”، إذ يظهر كرد فعل نفسي على صدمة أو ضغوط شديدة أثرت على القدرة على استرجاع المعلومات أو الأحداث الماضية.

طبيعة فقدان الذاكرة النفسي

ينطوي فقدان الذاكرة النفسي على اضطراب في عمليات استرجاع الذاكرة، وليس على تلف فعلي في مراكز الذاكرة الدماغية مثل الحصين (hippocampus) أو القشرة المخية. ويتميز بحدوث فجوات في الذاكرة قد تكون جزئية أو كلية، وقد تشمل نسيان أحداث حياتية مهمة أو حتى الهوية الشخصية في بعض الحالات.

هذا النوع من فقدان الذاكرة غالباً ما يكون مرتبطاً بصدمة عاطفية شديدة، مثل حادثة مؤلمة، وفاة شخص عزيز، اعتداء نفسي أو جسدي، أو ضغوط نفسية مفرطة. ويُعتقد أن الجسم والنفس يتفاعلان بطريقة تحمي الفرد من الألم النفسي عبر حجب واستبعاد بعض الذكريات المؤلمة.

الأسباب والعوامل المؤدية لفقدان الذاكرة النفسي

تتنوع أسباب فقدان الذاكرة النفسي، لكنها بشكل رئيسي ترتبط بالعوامل النفسية التي تؤدي إلى اضطراب في عملية تخزين أو استرجاع الذاكرة. ومن أهم هذه الأسباب:

1. الصدمة النفسية والحوادث المؤلمة: التعرض لتجربة مؤلمة مثل الحروب، الحوادث المرورية، الاعتداءات الجسدية أو الجنسية، فقدان عزيز، أو انهيار العلاقات الاجتماعية قد تؤدي إلى استجابة دفاعية نفسية تتمثل في نسيان تلك الأحداث لتجنب الألم النفسي.

2. الضغوط النفسية الحادة: الضغوط المستمرة مثل الخلافات العائلية، فقدان الوظيفة، الأزمات المالية، أو التوتر المزمن يمكن أن تساهم في ظهور فقدان ذاكرة نفسي مؤقت.

3. اضطرابات نفسية أخرى: مثل اضطرابات القلق، الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث غالباً ما يصاحبها نسيان الذكريات المرتبطة بالأحداث الصادمة.

4. تداخل عوامل بيولوجية ونفسية: رغم أن فقدان الذاكرة النفسي لا يحدث بسبب تلف دماغي مباشر، إلا أن التفاعل بين الجهاز العصبي والعمليات النفسية قد يغير من آليات استرجاع المعلومات في الدماغ.

أشكال فقدان الذاكرة النفسي

يمكن تصنيف فقدان الذاكرة النفسي إلى عدة أشكال وفقاً لطبيعة الفقدان ونطاقه:

• فقدان الذاكرة الحاد أو الكامل: يتم فيه فقدان كبير أو كامل للذاكرة المتعلقة بفترة زمنية محددة أو حتى لفترات أطول. قد يصل الأمر إلى نسيان الهوية الشخصية.

• فقدان الذاكرة الجزئي أو الانتقائي: يتم فيه نسيان بعض الأحداث أو التفاصيل دون غيرها، وغالباً ما تكون الأحداث المرتبطة بالصدمة هي التي تُنسى.

• فقدان الذاكرة الانتقالي: وهو فقدان مؤقت للذاكرة، قد يستمر لفترة قصيرة ثم يعود الشخص لاستعادة الذاكرة تدريجياً.

• فقدان الذاكرة المكانية أو الزمنية: قد يفقد الشخص القدرة على تذكر أماكن أو تواريخ معينة مرتبطة بالأحداث الصادمة.

الأعراض المصاحبة لفقدان الذاكرة النفسي

لا يقتصر فقدان الذاكرة النفسي على النسيان فقط، بل قد يصاحبه مجموعة من الأعراض النفسية والجسدية، منها:

• اضطرابات المزاج مثل الاكتئاب أو القلق.

• شعور بالتشوش والارتباك.

• تغييرات في الهوية الذاتية أحياناً، كأن يشعر الشخص بأنه “غير نفسه”.

• أحياناً تظهر أعراض جسدية غير مبررة طبياً، مثل الصداع، التعب، أو اضطرابات النوم.

• حالات نادرة من الهروب النفسي (dissociative fugue) حيث يترك الشخص مكانه فجأة ويدخل في حالة من فقدان الذاكرة مع تغييرات في الهوية.

الآليات النفسية والعصبية لفقدان الذاكرة النفسي

على الرغم من أن فقدان الذاكرة النفسي لا ينتج عن إصابة دماغية عضوية، إلا أن البحث العلمي أظهر تفاعلات معقدة بين الجهاز العصبي المركزي والعمليات النفسية تؤثر على تخزين واسترجاع الذكريات. ويُعتقد أن الاستجابة الدفاعية للدماغ تجاه الصدمات تؤدي إلى تعطيل مؤقت في أداء بعض الدوائر العصبية، خاصة في مناطق مثل الحصين والقشرة الجبهية، التي تلعب دوراً أساسياً في معالجة وتخزين الذكريات.

كذلك، الاضطرابات في نظام الهرمونات المرتبطة بالتوتر مثل الكورتيزول قد تؤثر على القدرة على استرجاع الذكريات بشكل طبيعي. كما تشير بعض الدراسات إلى أن الأميغدالا (amygdala) التي تعالج المشاعر قد تكون نشطة بشكل مفرط أثناء تجارب الصدمة، ما يغير من طريقة تسجيل الذكريات.

التشخيص التفريقي

يحتاج تشخيص فقدان الذاكرة النفسي إلى فحص دقيق لفصل الحالة عن أسباب أخرى لفقدان الذاكرة، ومنها:

• الفقدان العضوي للذاكرة نتيجة إصابة دماغية أو أمراض مثل الزهايمر.

• فقدان الذاكرة الناتج عن تعاطي مواد مخدرة أو الكحول.

• اضطرابات نفسية أخرى قد تؤثر على الذاكرة مثل الذهان.

يُستخدم في التشخيص مقابلات نفسية مفصلة، تقييم طبي شامل، وربما بعض الفحوصات العصبية لتحديد وجود أو عدم وجود تلف دماغي عضوي.

طرق العلاج والتأهيل النفسي

تتطلب حالات فقدان الذاكرة النفسي علاجاً متخصصاً يركز على الجانب النفسي والعاطفي، حيث يهدف إلى إعادة استرجاع الذكريات وتحسين الأداء النفسي العام. من أهم طرق العلاج:

• العلاج النفسي التحليلي والسلوكي: يهدف إلى معالجة الصدمات النفسية الكامنة وراء فقدان الذاكرة من خلال جلسات تحليلية أو علاج معرفي سلوكي لتقوية استراتيجيات التعامل مع الذكريات المؤلمة.

• العلاج بالتنويم المغناطيسي: أحياناً يستخدم لتحفيز الذاكرة واسترجاع الذكريات المفقودة.

• العلاج الدوائي: ليس علاجاً مباشراً لفقدان الذاكرة النفسي، لكنه يُستخدم لمعالجة الأعراض المصاحبة مثل القلق أو الاكتئاب.

• الدعم الاجتماعي والأسري: يلعب دوراً محورياً في إعادة تأهيل الشخص ودعمه نفسياً في مواجهة التحديات.

• تقنيات الاسترخاء واليوغا: تساعد في تقليل التوتر النفسي وتحسين القدرة على التركيز واسترجاع الذكريات.

تأثير فقدان الذاكرة النفسي على الحياة اليومية

يؤثر فقدان الذاكرة النفسي بشكل كبير على جودة حياة الفرد، فهو يعرقل التواصل الاجتماعي، القدرة على العمل، والتفاعل مع البيئة المحيطة. فقدان الذكريات الشخصية والذكريات المتعلقة بالأحداث الحياتية اليومية قد يولد شعوراً بالعزلة والاغتراب النفسي، مما قد يؤدي إلى تدهور الحالة النفسية وزيادة خطورة حدوث انتكاسات.

في بعض الحالات الشديدة، قد يؤدي فقدان الذاكرة النفسي إلى اضطرابات في الهوية، بحيث لا يستطيع الشخص التعرف على نفسه أو يختلط عليه الماضي والحاضر، ما يتطلب تدخل طبي ونفسي عاجل.

استنتاجات علمية حول فقدان الذاكرة النفسي

يرى الباحثون أن فقدان الذاكرة النفسي هو تعبير عن تعقيدات التفاعل بين الدماغ والنفس، حيث يُستخدم كآلية دفاعية لحماية الفرد من آلام الصدمة النفسية. مع ذلك، فإن استمرار هذه الحالة يؤثر سلباً على الوظائف الحياتية للفرد ويستلزم علاجاً مهنياً دقيقاً.

تقدم الدراسات الحديثة نماذج تفسيرية تعتمد على علم الأعصاب السلوكي (Neurobehavioral Science) لفهم كيفية تأثير التوتر النفسي على الوظائف الدماغية، ما يساعد في تطوير أساليب علاجية متقدمة تستهدف استعادة الذاكرة وتحسين جودة الحياة.

جدول توضيحي لأنواع فقدان الذاكرة النفسي وأسبابها

المصادر والمراجع

• Brewin, C. R. (2007). “Memory processes in post-traumatic stress disorder.” International Review of Psychiatry, 19(5), 276-283.

• Kihlstrom, J. F. (2005). “Dissociative disorders.” Annual Review of Clinical Psychology, 1, 227-253.

فقدان الذاكرة النفسي يمثل تحدياً طبياً ونفسياً معقداً يجمع بين عالَم الدماغ وعالم النفس، وتفهمه يتطلب مقاربة متعددة التخصصات لإعادة الفرد إلى حالة توازن نفسية وسلوكية طبيعية تمكنه من استعادة ذكرياته والعيش بحياة أكثر استقراراً.