غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

لقد تميزت الشريعة الإسلامية منذ نشأتها بالرؤية الإنسانية الشاملة التي تنظر إلى الإنسان ككائن مكرّم بصرف النظر عن دينه أو لونه أو عرقه، فجاءت النصوص الشرعية لتؤسس لمجتمع متماسك يقوم على أسس من العدالة والرحمة والحقوق المكفولة للجميع. من أبرز تجليات هذه الرؤية، ما يتعلق بمكانة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، حيث لم تكن العلاقة معهم علاقة عداء أو إقصاء، بل علاقة تعايش وسلام وشراكة اجتماعية مبنية على مبادئ واضحة وقواعد ثابتة تحفظ لهم حقوقهم وتصون كرامتهم.

التعدد الديني في المجتمع الإسلامي

منذ تأسيس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة على يد النبي محمد ﷺ، وُضعت اللبنات الأولى لمجتمع متعدد الأديان والأعراق، حيث عاش المسلمون واليهود والمشركون تحت نظام واحد يحفظ الحقوق وينظم الواجبات. وجاء ميثاق المدينة ليكون أول وثيقة مدنية قانونية في التاريخ تنظم العلاقة بين أطياف المجتمع المختلفة، بما فيهم غير المسلمين، فنصّت على أن “لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وهم أمة من دون الناس”، ما يدل على اعتراف صريح بحقوق غير المسلمين في الانتماء الديني ضمن كيان الأمة الواحدة.

الأساس الشرعي للتعامل مع غير المسلمين

قامت علاقة المسلمين بغيرهم على أسس شرعية متينة، من أهمها:

1. الكرامة الإنسانية: قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، وهي كرامة عامة تشمل كل البشر بغض النظر عن دينهم.

2. العدل في المعاملة: قال الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 8]، حيث أمر بالبر والقسط في التعامل مع غير المسلمين المسالمين.

3. الوفاء بالعقود والعهود: يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، ويدخل في ذلك الوفاء بعهود الذمة والأمان.

الحقوق المدنية لغير المسلمين

غير المسلمين في المجتمع الإسلامي يتمتعون بجملة من الحقوق المدنية التي نصت عليها الشريعة الإسلامية:

1. الحق في الأمن والحماية

من أبرز الحقوق المكفولة لغير المسلمين هو حقهم في الحياة الآمنة والحماية من أي اعتداء أو ظلم. وقد قال النبي ﷺ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» [رواه البخاري]، في إشارة إلى حرمة دم غير المسلم المعاهد.

2. الحرية الدينية

أقر الإسلام حرية العقيدة، فقال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، فلم يفرض الإسلام نفسه على أحد، بل جعل الإيمان خياراً حراً مبنياً على القناعة.

3. الحق في الملكية

يتمتع غير المسلم في الدولة الإسلامية بحق امتلاك الأموال والممتلكات، والتصرف فيها بالبيع والشراء والهبة والوصية، دون أي تقييد بسبب الدين.

4. الحق في العمل والكسب

لغير المسلم الحق في ممارسة العمل والمهن المختلفة ضمن حدود القانون العام للمجتمع، ويحق له أن يشارك في الاقتصاد والحرف والتجارة.

5. الحق في التقاضي

لغير المسلم الحق في اللجوء إلى القضاء في حال تعرضه لظلم أو انتهاك، وقد كان الخلفاء والقضاة ينظرون في قضايا غير المسلمين كما ينظرون في قضايا المسلمين، دون تمييز في الأحكام القضائية.

الالتزامات الواقعة على غير المسلمين

كما للمواطن غير المسلم في الدولة الإسلامية حقوق، فإن عليه التزامات تجاه الدولة والمجتمع، من أبرزها:

• احترام النظام العام وعدم التعدي على حريات الآخرين أو إثارة الفتن.

• الوفاء بالعهد الذي بينه وبين الدولة الإسلامية.

• دفع الجزية، وهي مقابل الحماية والخدمات التي توفرها الدولة له، وهي أقل من الزكاة التي يدفعها المسلم، ولا تُجبى من النساء أو الأطفال أو غير القادرين.

التعايش والتفاعل الحضاري

شهدت الحضارة الإسلامية عبر العصور أمثلة مبهرة على التعايش بين المسلمين وغيرهم. ففي الأندلس، عاش اليهود والنصارى والمسلمون في بيئة علمية وثقافية مزدهرة، حيث شغل غير المسلمين مناصب في الطب والهندسة والترجمة وحتى في دوائر الحكم.

وفي العصر العباسي، ازدهرت الترجمة والنقل من علوم الإغريق والفرس، وكان من المترجمين البارزين “حنين بن إسحاق” وهو مسيحي نسطوري، وقد ترجم مئات الكتب التي شكلت نواة الحضارة الإسلامية العلمية.

الحماية القانونية لغير المسلمين

جاءت أحكام الفقه الإسلامي بمنظومة حماية لغير المسلمين تعرف بـ”أهل الذمة”، وهم الذين ارتبطوا بعهد أمان مع الدولة الإسلامية. و”الذمة” مصطلح يعكس الالتزام القانوني والأخلاقي الذي يقع على الدولة الإسلامية تجاههم. ومن أبرز جوانب الحماية:

• منع الإكراه على تغيير الدين.

• حظر التعرض لأماكن عبادتهم.

• منع الاستهزاء بمعتقداتهم في الفضاء العام.

• إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، في مقابل التزام الدولة بحمايتهم.

وقد أورد الفقهاء أن من صور الاعتداء على الذميين: أذية الكنائس، أو الاعتداء على أحدهم، أو تحميلهم فوق طاقتهم من الجزية أو الجباية، وكلها محرمة شرعاً.

نماذج تاريخية بارزة

عمر بن الخطاب وأقباط مصر

عند فتح مصر، أوصى عمر بن الخطاب قائده عمرو بن العاص بالأقباط خيرًا، وقد استقرت العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر على قواعد من العدل والاحترام المتبادل، بل وكان عمرو بن العاص يرد المظالم إلى أهلها حتى وإن كان المتظلم غير مسلم.

صلاح الدين الأيوبي والصليبيين

حين استعاد صلاح الدين القدس عام 1187م، لم يرتكب أي مجازر بحق المسيحيين كما فعل الصليبيون من قبل، بل سمح لهم بالخروج آمنين أو بالبقاء في المدينة بحرية.

معاهدة عمرية

في العهدة العمرية، التي كتبها الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء (القدس)، ضمانات كاملة لحقوق النصارى في أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، فكانت نموذجاً لما يسمى في العصر الحديث “بالحرية الدينية وحقوق الأقليات”.

أثر هذا النهج في بناء الحضارة

إن هذا التعامل الإنساني والمتوازن مع غير المسلمين كان سبباً في دخول كثير من الناس في الإسلام عن قناعة، حيث رأوا في المجتمع الإسلامي نموذجاً للعدالة والرحمة والتكافل، وليس مجتمعاً قهرياً أو طائفياً.

لقد ساهم غير المسلمون في بناء الحضارة الإسلامية في مجالات الطب، والرياضيات، والهندسة، والفلك، والترجمة، بل وحتى في الشعر والأدب. وهو ما يدل على أن المجتمع الإسلامي لم يكن مغلقًا أو منغلقًا على نفسه، بل كان منفتحاً على التنوع ومستفيداً من كل طاقات أفراده بغض النظر عن دينهم.

جدول: مقارنة بين حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي وبعض المجتمعات الأوروبية في العصور الوسطى

الخلاصة

غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ليسوا طارئين أو عابري سبيل، بل هم جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي والديني للمجتمعات الإسلامية. وقد أسست الشريعة الإسلامية نظاماً فريداً يقوم على العدالة والكرامة والتعايش السلمي، ونجحت هذه المبادئ في تجسيد التعددية الحقيقية في مختلف الحقب الإسلامية، لتقدم للعالم نموذجاً راقياً في التعايش لا يزال حياً في ضمير الإنسانية.

المراجع:

1. القرضاوي، يوسف. “غير المسلمين في المجتمع الإسلامي”. دار الشروق، القاهرة.

2. أبو زهرة، محمد. “العلاقات الدولية في الإسلام”. دار الفكر العربي.