حديثي إليك أيها الأب الغيور

في زمن تتلاطم فيه الأمواج القيمية وتتداخل فيه المفاهيم التربوية، تبرز مسؤولية الأب بوصفه حجر الزاوية في بناء شخصية الأبناء، وغرس المبادئ، وترسيخ القيم. ولعل أنبل صفة تميز الأب الواعي اليوم هي “الغيرة” الصادقة على أهله وبيته، تلك الغيرة النابعة من الحرص لا من التسلط، ومن الفطرة السليمة لا من العادات البالية، ومن الإيمان الصادق لا من التقاليد المتوارثة فحسب. حديثي إليك أيها الأب الغيور، حديث القلب للقلب، والعقل للعقل، والفطرة للفطرة، لأن الزمن لا يرحم الغافلين، والمسؤولية عظيمة، والثمن فادح لمن يتخاذل أو يغفل.

مفهوم الغيرة وأصالتها في النفس البشرية

الغيرة شعور فطري متأصل في النفس الإنسانية، وهي من الصفات التي فطر الله عز وجل عباده عليها لحماية الكيان الأسري، وصيانة الحرمات، وحفظ الكرامة. وقد قال رسول الله ﷺ: “أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني” (رواه مسلم). فالله سبحانه يغار على عباده أن يقعوا في الحرام، ويشرّع الحدود ويمنع الفواحش لحمايتهم. وإذا كانت الغيرة من صفات الله جل جلاله، فكيف لا تكون صفةً أصيلة في الرجل الذي أكرمه الله بمقام القيادة والرعاية في أسرته؟

الغيرة المحمودة هي التي تنبع من نفسٍ عفيفة، وتستند إلى البصيرة الشرعية، وتهدف إلى حماية العرض، وصيانة الأسرة من الانحراف. وليست الغيرة ضرباً من ضروب الشك، ولا مرضاً نفسياً، ولا حالة من التسلط أو الهيمنة. هي غيرة على القيم، على الحياء، على الطهر، على براءة الأبناء، وعلى حياء البنات، وهي غيرة على الأسرة من الانزلاق في هاوية الانفتاح المدمر أو الانحراف الأخلاقي.

مكانة الأب في تشكيل الوعي الأسري

الأب ليس مجرد معيل للأسرة، بل هو القائد الموجه، والقدوة الصالحة، والمربي الحازم الرحيم. وجوده في البيت ليس وجوداً مادياً فحسب، بل هو حضور تربوي ونفسي وأخلاقي. فحين يُغَيِّب الأب دوره، أو يستهين بسلطته التربوية، يصبح البيت عُرضة لرياح التغريب، وتيار الانحلال، وسرعان ما تظهر علامات الانفلات في سلوك الأبناء والبنات، ويبدأ الانهيار من حيث لا يشعر.

الأب الغيور لا يكتفي بالتوجيه، بل يراقب ويتابع، يصادق أبناءه ويحاورهم، يتقن لغة الحب بلا تدليل، ويضبط حدود الحرية بلا قمع. إنه يفتح لهم نوافذ النور، ويمنعهم من الاقتراب من دوائر الخطر، ليس بدافع التحكم، بل بدافع المسؤولية. وإن من أعظم ما يُبتلى به الأب اليوم هو الاستقالة العاطفية والتربوية، بحيث يتحول إلى مجرد رقم في حياة الأسرة، لا يسمع منه أبناؤه إلا التوبيخ، ولا يرونه إلا مشغولاً أو غائباً.

الغيرة في زمن الانفتاح التقني

في عصر الهواتف الذكية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والبث المباشر، لم يعد البيت محاطاً بجدران تحفظه، بل صار مفتوحاً على مصراعيه لرياح القيم المستوردة، والدعوات المغرضة، والمشاهد المدمرة للحياء. وهنا تتجلى أهمية الغيرة عند الأب، إذ لا بد أن يكون سداً منيعاً أمام كل اختراق قيمي، أو استباحة لعفة الأسرة، أو تهاون في حدود الشرع.

فهل يدرك الأب الغيور حجم ما يتعرض له أبناؤه من محتوى فاسد عبر التطبيقات؟ هل يعلم ما يشاهدونه، وما يتابعونه، ومن يتواصلون معه؟ إن الأب الذي يترك أطفاله يغوصون في بحر الإنترنت دون رقيب، يفتح عليهم أبواب الفتن، ويتركهم في مهبّ الريح. لا يكفي أن يوفر لهم الإنترنت في غرفهم، بل عليه أن يزرع في قلوبهم رقابة الله، ويضبط استخدامهم بالضوابط الشرعية، ويكون هو أول من يعطي المثال في الاستخدام المعتدل والحكيم.

الغيرة على البنات: مسؤولية مضاعفة

البنت زهرة البيت، وهي موضع الغيرة الأعظم في قلب الأب الصادق. وإن من البلاء أن نرى بعض الآباء وقد تنازلوا عن غيرتهم، وسمحوا لبناتهم بالخروج المتكرر بلا سبب، أو اللباس المتبرج، أو التهاون في الحجاب، أو التفاعل في شبكات التواصل بشكل غير منضبط. ومنهم من يفرط في ذلك بحجة أن الزمان تغير، أو لأن “الثقة موجودة”، أو لأن “الفتاة تفهم مصلحتها”.

الحقيقة أن الغيرة ليست نقيض الثقة، بل هي شقيقتها. ومن أحبّ إنساناً غار عليه، ومن خاف عليه من السقوط احتواه بنور التربية، وحدود الحكمة، وحدب المتابعة. فإن العدو المتربص لا يفرّق بين فتاة ملتزمة وغير ملتزمة، بل يبحث عن الثغرات، وينتظر غفلة الأب ليُدخل أذرعه الملوثة إلى حديقة البيت.

ومن أشد ما يجب التنبه له، ذلك التهاون في أمر الاختلاط العشوائي، أو السماح بالخصوصيات في وسائل التواصل، أو التغاضي عن بعض مظاهر التقليد الغربي في اللباس أو السلوك. كل ذلك يمهد لانفراط العقد الأخلاقي داخل الأسرة، ويحول البيت إلى فضاء مفكك، لا روح فيه ولا ضوابط.

الغيرة على الأبناء: تربية الرجولة والشرف

كما أن على الأب أن يَغار على بناته، فعليه كذلك أن يزرع الغيرة في نفوس أبنائه الذكور. أن يغرس فيهم احترام الأنثى، وصيانة النظر، وغض البصر، وتقدير حدود الحلال والحرام. وأن يعلمهم أن الرجل لا يكون رجلاً إلا إذا حمل همّ العرض، وخاف على عفته وعفة غيره، وأن الرجولة لا تعني السيطرة أو التسلط، بل تعني الالتزام بالمسؤولية، واحترام الحرمات، والدفاع عن القيم.

إن من المؤسف أن كثيراً من الذكور اليوم تربوا على ثقافة الاستهلاك، والانفلات، والنفعية المطلقة. لم يعد للغيرة وجود في نفوسهم، لأنهم لم يجدوا من يربيهم عليها. وقد تجد شاباً لا يغار على أخته، أو يبرر لها الخروج المتبرج، أو يتهاون في العلاقات المحرمة. ومنشأ ذلك ضعف التربية، وغياب القدوة، واختفاء الأب الغيور من حياتهم.

الغيرة بين الاعتدال والتطرف

لا بد من التنويه إلى أن الغيرة إذا خرجت عن حدها تحولت إلى مرض، وإذا ضعفت حتى اختفت صارت خيانة. والمطلوب هو التوازن النبيل، لا الغلو ولا التفريط. فليست الغيرة أن تحبس الفتاة أو الشاب عن كل شيء، أو تمنعهم من التعلم والعمل المشروع، أو تشك فيهم بلا دليل، أو تمارس الرقابة العشوائية التي تخلق التوتر والعداوة. كما أن الغيرة لا تعني انعدام الحوار، بل على العكس، الأب الغيور الحقيقي هو من يجيد الحديث مع أبنائه، ويحتويهم بالحنان، ويوجههم بالحكمة.

ومن المؤسف أن بعض الآباء يرتكبون باسم الغيرة ما يُفسد ولا يُصلح، فيغرسون في نفوس أبنائهم الخوف بدلاً من الوعي، والعداء بدلاً من الاحترام، والتمرد بدلاً من الطاعة. فالتربية ليست استعراضاً للقوة، بل بناء متكامل لشخصية مستقلة، واثقة، تحب الخير وتبتعد عن الشر بإرادتها لا بمجرد الخوف من الأب.

الغيرة ركيزة في البناء المجتمعي

الأسرة هي نواة المجتمع، وكل بيت يتمتع بالغيرة الصادقة، يرفد المجتمع برجال شرفاء ونساء عفيفات. أما البيوت التي تفرّط في الغيرة، فهي تزرع جيلًا هشًا، بلا وازع، بلا مروءة، بلا ضمير. ولهذا كانت الغيرة مسؤولية اجتماعية عامة، وليست شأناً فرديًا. فالأب الغيور لا يحمي فقط أسرته، بل يساهم في حماية منظومة القيم، ويرسي دعائم الحياء، ويُسهم في تحصين الأمة ضد حملات التغريب والانحلال.

ولن تنهض أمة تفقد رجالها غَيرتهم، لأن الغيرة هي أول ملامح الرجولة، ومرآة الأخلاق، وخط الدفاع الأول ضد التفكك الأسري والانحطاط المجتمعي.

جدول: الفروق بين الغيرة المحمودة والغيرة المذمومة

خاتمة

حديثي إليك أيها الأب الغيور، هو نداء إلى فطرتك، وإحياء لضميرك، وتذكير لك بأنك حارس على أبواب بيتك، ورمانة ميزان الأسرة، وصانع القيم في نفوس أبنائك. ولا سبيل إلى النجاة في هذا الزمن إلا برجال يحملون في قلوبهم غيرةً صادقة، وعقولًا راشدة، وقلوبًا تنبض بحب أبنائهم وخوفٍ صادق عليهم من طرق الضياع. فكن كما أرادك الله: راعيًا مسؤولًا، غيورًا حكيمًا، أبًا يُقتدى به لا يُشتكى منه.

المراجع:

1. صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب غيرة النساء وفضل من يغار.

2. ابن القيم، “الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي”، دار الكتب العلمية.