غوغل تخطو أول خطوة في حربها على آبل: قراءة معمّقة في بدايات صراع العملاقين

شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً غير مسبوق في التوترات التكنولوجية بين كبريات شركات التكنولوجيا العالمية، وعلى رأسها شركتي غوغل وآبل. وبينما ظل الصراع بينهما طويلاً يأخذ طابعاً تنافسياً خفياً في خلفية المشهد التقني العالمي، إلا أن الفترة الأخيرة شهدت تحولاً استراتيجياً مهماً كشف عن أولى خطوات غوغل الصريحة نحو الدخول في حرب مفتوحة مع آبل. هذه الحرب لا تقتصر على سوق الهواتف الذكية فحسب، بل تمتد لتشمل مجموعة من المجالات الحيوية الأخرى مثل البحث، الإعلانات، الخصوصية، الذكاء الاصطناعي، ونظم التشغيل.

البداية: جذور التنافس بين غوغل وآبل

لم يكن الصراع بين غوغل وآبل وليد اللحظة، بل هو امتداد لتاريخ طويل من التنافس الذي بدأ فعلياً مع إطلاق نظام أندرويد عام 2008، والذي مثل التحدي الأكبر أمام نظام تشغيل آبل المغلق “iOS”. ومنذ ذلك الحين، تباينت طبيعة العلاقة بين الشركتين بين التعاون والتنافس، حيث ظلت غوغل توفر محرك بحثها لمتصفح سفاري في أجهزة آبل مقابل اتفاقات مالية ضخمة، في حين استمرت آبل في ترسيخ نموذجها الاقتصادي القائم على بيع الأجهزة والخدمات المبنية على الخصوصية.

غير أن التغيرات الاستراتيجية العميقة التي تشهدها الصناعة التكنولوجية مؤخراً، دفعت غوغل إلى إعادة النظر في تحالفاتها وخصوماتها، لتتخذ أولى خطواتها الجريئة في إعلان حرب مفتوحة على آبل.

إعلان أول خطوات الحرب: مشروع “بيكسل” كمنصة متكاملة

تُعد خطط غوغل لتوسيع عائلة “بيكسل” أولى إشارات التحدي العلني لآبل. فبعد أعوام من تردد غوغل في دخول سوق الأجهزة بشكل مباشر، بدأت الشركة في تبني إستراتيجية مشابهة لآبل، تقوم على تطوير منظومة متكاملة من الأجهزة والبرمجيات، تشمل الهواتف، الحواسيب المحمولة (Pixelbook)، السماعات (Pixel Buds)، والساعات الذكية (Pixel Watch)، إلى جانب برمجيات ذكاء صناعي وميزات حصرية على أجهزتها.

تهدف هذه الاستراتيجية إلى خلق منظومة متماسكة تشبه نظام آبل الإيكولوجي، وهي خطوة تعني ضمنياً رغبة غوغل في كسر هيمنة آبل على سوق الأجهزة المتكاملة، الذي يشكل أحد أبرز نقاط قوة الشركة الأخيرة.

الخصوصية: ساحة المعركة الأخلاقية والتجارية

من أكثر الجبهات حساسية في هذا الصراع هي الخصوصية. فبينما تروّج آبل لنفسها باعتبارها “حامية خصوصية المستخدم”، تعرض غوغل لانتقادات متواصلة بسبب نماذجها الاقتصادية المعتمدة على الإعلانات وجمع البيانات.

غير أن غوغل في الأعوام الأخيرة، وتحديداً بعد 2022، بدأت بإعادة تشكيل خطابها حول الخصوصية. طرحت الشركة أدوات جديدة تمنح المستخدمين المزيد من التحكم في بياناتهم، وبدأت باعتماد أساليب أقل تدخلاً في جمع المعلومات، بما في ذلك مشروع “Privacy Sandbox” الذي يهدف إلى تقليل اعتماد الإعلانات على ملفات تعريف الارتباط. هذا التوجه لم يأتِ من فراغ، بل هو جزء من خطط غوغل لمنافسة آبل في ميدانها الأخلاقي، وتحدي سرديتها المرتكزة على حماية الخصوصية.

خنادق البحث: المعركة على محرك البحث الافتراضي

تشكل العلاقة بين غوغل وآبل في مجال البحث أحد أكثر مظاهر التداخل والتناقض تعقيداً. فرغم أن غوغل تدفع لآبل ما يقدر بـ15 مليار دولار سنوياً لكي تكون محرك البحث الافتراضي في متصفح سفاري، إلا أن هذه الشراكة تبدو هشة في ضوء التغيرات القادمة.

تشير تقارير إلى أن آبل تعمل منذ سنوات على تطوير محرك بحث خاص بها، يحمل الاسم الرمزي “Pegasus”، وقد بدأت بعض ملامحه تظهر في تحسينات متصفح سفاري وأنظمة البحث داخل الأجهزة. هذه الخطوة تهدد مباشرة سيطرة غوغل على سوق البحث في أجهزة آبل، وهو ما يشكل تهديداً وجودياً لأحد أهم مصادر دخلها.

رداً على ذلك، يبدو أن غوغل باتت تفكر بجدية في تقليل اعتمادها على آبل، وذلك عبر الترويج لأجهزة بيكسل كمنصة مدمجة تستغني كلياً عن خدمات آبل، وتقدم تجربة بحث جديدة تجمع بين الذكاء الاصطناعي والخصوصية.

الذكاء الاصطناعي: الجبهة المستقبلية للصراع

أصبحت تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي ومساعدات الذكاء الافتراضية مجال التنافس الأهم بين عمالقة التكنولوجيا. أطلقت غوغل مساعدها الذكي “Gemini”، كبديل مطور للمساعد الصوتي التقليدي، مدمجاً بخوارزميات تعلم عميق وقدرات توليد نصوص وصور وتحليل معلومات فوري. في المقابل، تعمل آبل على تعزيز قدرات “Siri” وتوسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي في نظام iOS.

يكمن التحدي الأكبر هنا في قدرة كل من الشركتين على تحويل تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى أدوات عملية يومية، مع المحافظة على تجربة مستخدم آمنة وسلسة. ولأن غوغل تملك قاعدة بيانات أضخم وأكثر تنوعاً، فإنها تتفوق في التدريب والتخصيص، إلا أن آبل تعوّل على تكامل أجهزتها وولاء مستخدميها لتقليص هذه الفجوة.

سوق التطبيقات: السيطرة على منصات التوزيع

يمثل متجر “App Store” أحد الأعمدة الاقتصادية لشركة آبل، إذ يحقق لها مليارات الدولارات سنوياً من خلال العمولات المفروضة على التطبيقات والمشتريات داخلها. هذا النموذج تعرض لانتقادات كثيرة من شركات التطوير، وعلى رأسها غوغل، التي بدأت مؤخراً بالمطالبة بتعديل القواعد الاحتكارية التي تفرضها آبل.

وتحاول غوغل كسب مزيد من المطورين والمستخدمين من خلال تخفيف العمولات في متجر “Google Play”، وتقديم خيارات دفع بديلة أكثر مرونة، بل وصل الأمر إلى تحالفات قانونية ضد آبل لدفعها نحو تحرير نموذجها المغلق.

جدول مقارنة بين استراتيجيات آبل وغوغل في مختلف القطاعات

صراع المصالح الاقتصادية والقيم المؤسسية

يمثل هذا الصراع أيضاً تناقضاً جوهرياً بين نماذج اقتصادية وقيم مؤسسية متباينة. فبينما تنبني فلسفة غوغل على الوصول المفتوح والتوسع القائم على البيانات والإعلانات، تتمحور رؤية آبل حول الحصرية والخصوصية والقيمة المضافة للمستخدمين.

هذه التناقضات لا تعني بالضرورة أن أحد النموذجين سيتفوق بشكل كامل على الآخر، بل تشير إلى تبلور سوق أكثر تنوعاً، حيث يختار المستخدم بين منظومتين تختلفان في الأسلوب والرؤية والنتائج.

النظرة المستقبلية: هل نحن أمام حرب باردة أم صدام شامل؟

ما نشهده اليوم هو بداية تحول نوعي في علاقة غوغل بآبل، قد تنقل الصراع من كونه تنافساً صامتاً إلى صراع مفتوح يتجاوز الأجهزة والخدمات ليطال تعريف التكنولوجيا ذاتها. فمع توجه كل شركة لبناء منظومتها الخاصة المكتفية ذاتياً، وتراجع التعاون التقليدي بينهما، تتبلور ملامح “حرب باردة” تقنية قد تستمر لعقد كامل.

تدرك غوغل أن سيطرتها على السوق لن تكتمل إلا إذا استطاعت أن تُخرج آبل من معادلة الهيمنة الرقمية، والعكس صحيح. وبينما يبقى المستخدم النهائي هو المستفيد من الابتكار الناتج عن هذا الصراع، فإن مستقبل التقنية العالمي يتأثر جذرياً بتلك المعركة التي بدأت بخطوة واحدة جريئة من غوغل، لكن عواقبها قد تمتد لعقود.

المراجع:

• تقرير Bloomberg حول مشروع Pegasus الخاص بآبل.

• تقرير The Verge حول توسع استراتيجية غوغل في أجهزة Pixel والذكاء الاصطناعي.