غرض خلق الإنسان في الإسلام

لماذا خلق الله البشر

إنّ مسألة خلق الإنسان تمثل أحد أعظم الأسئلة الوجودية التي شغلت العقل البشري منذ فجر التاريخ. وقد تناولتها الأديان والفلسفات على حد سواء، لكنها تجد أعمق تجلياتها وأوضح أجوبتها في الوحي الإلهي، حيث تتجلى الحكمة الربانية في خلق البشر، لا باعتباره فعلاً عبثيًا أو عشوائيًا، بل باعتباره عملية إلهية محكمة تنطوي على مقاصد كونية وروحية عظيمة. ففي القرآن الكريم، الذي يُعد المرجع الأعلى في الفكر الإسلامي، يرد قول الله تعالى: ﴿وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون﴾ [الذاريات: 56]، وهي آية محورية ترسم الغاية العظمى من خلق الإنسان. وفيما يلي تحليل موسع ومفصل لهذه الغاية ضمن أبعادها العقائدية، الأخلاقية، الاجتماعية، الكونية والروحية.

أولاً: العبادة كغاية وجودية للإنسان

تُبيّن الآية القرآنية السابقة أن العبادة هي الغاية المركزية من خلق الإنسان. غير أن مفهوم العبادة في الإسلام لا يقتصر على الطقوس الدينية فحسب، بل يشمل كل عمل يُقصد به وجه الله تعالى ويُؤدى ضمن دائرة الحلال. فكل سلوك بشري – من الصلاة والصيام إلى العمل والإحسان والعلم وتربية الأبناء – يمكن أن يكون عبادة إذا أُنجز بنيّة صادقة.

العبادة بهذا المفهوم تجعل من الإنسان كائناً ذا بعد معنوي، يرتبط بعلاقة عمودية مع خالقه، تعبيرًا عن الافتقار المطلق إلى الله، وعن إدراك الإنسان لمحدوديته وفقره، وعن وعيه بالمصدر الذي أوجده من العدم. فالعبادة ليست عبئًا أو تكليفًا ثقيلًا، بل هي تواصل روحي وتناغم وجودي بين الإنسان والحقّ سبحانه.

ثانياً: الاستخلاف في الأرض

قال الله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة﴾ [البقرة: 30]، وهنا يظهر بعد جديد من أبعاد خلق الإنسان، وهو الاستخلاف. فالإنسان خُلق ليكون خليفة في الأرض، أي ليمارس عمارة الأرض وفق منهج الله، وينشر فيها العدل والخير، ويقيم ميزان الحق، ويحمي البيئة، ويحقق التنمية المستدامة، في ضوء الشرائع الإلهية.

الاستخلاف يعني أن الإنسان ليس كائناً معزولاً عن الكون، بل هو مكلّف بتسييره وتدبيره ضمن حدود الشرع والأخلاق. وقد منحه الله الأدوات التي تمكّنه من أداء هذا الدور: العقل، والإرادة الحرة، والضمير، واللغة، والمعرفة، إضافة إلى تسخير الكائنات الأخرى لخدمته. الاستخلاف بذلك ليس تشريفًا فقط، بل هو تكليف ومسؤولية عظيمة تُرتّب على الإنسان أمانة كبرى.

ثالثاً: الابتلاء والاختبار

من الحِكم الإلهية في خلق البشر أنّ الحياة الدنيا دار ابتلاء، قال الله تعالى: ﴿الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾ [الملك: 2]. فالوجود الإنساني مرتبط بعنصر الامتحان: امتحان في الإيمان، في الصبر، في الأمانة، في التعامل مع الآخرين، وفي مدى الالتزام بالأوامر والنواهي.

ويُعدّ هذا الابتلاء من أسمى صور التكريم الإلهي للإنسان، لأنه يعني أنه كائن حرّ، وأن خياراته ذات قيمة، وأن أعماله ليست عبثًا، بل يُحاسب عليها، ويثاب أو يُعاقب تبعًا لها. فالله لم يخلق الإنسان ليعيش حياة ترفيهية فارغة، بل حياة مليئة بالتحديات الأخلاقية والروحية.

رابعاً: تحقيق العبودية الحرة المبنية على العقل والاختيار

الإنسان وحده من بين الكائنات هو الذي جُعل مسؤولًا عن اختياره، قال تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان﴾ [الأحزاب: 72]. الأمانة هنا تتضمن حرية الإرادة، وقدرة الإنسان على الطاعة أو المعصية. وهذا يجعل من الإنسان الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يختار بين طريق الخير وطريق الشر، مما يمنحه قيمة أخلاقية لا توجد في باقي المخلوقات.

وهذا الاختيار هو الذي يجعل من أعمال الإنسان ذات معنى، لأن العبادة القائمة على الجبر لا وزن لها، أما العبادة القائمة على الوعي والاختيار فترتقي بصاحبها إلى مصافّ الكمالات الروحية، وتؤهله لنيل رضا الله.

خامساً: إظهار الأسماء والصفات الإلهية

من مقاصد خلق الإنسان أيضًا، إظهار بعض الأسماء والصفات الإلهية على مسرح الوجود، مثل الرحمة، المغفرة، العدل، الحكمة، الخالق، الرزاق، وغيرها. فإن وجود الإنسان وما يجري عليه من أقدار وأحداث إنما يُظهر تجليات هذه الصفات. فمن خلال حاجته إلى المغفرة تظهر صفة “الغفور”، ومن خلال ضعفه تظهر “الرحيم”، ومن خلال معاناته يظهر “اللطيف”، ومن خلال قدرته على التعلّم يظهر “العليم”.

الكون بما فيه من بشر هو مرآة تتجلى فيها صفات الجلال والجمال الإلهي، والإنسان هو محور هذه المرآة، فهو أكثر الكائنات استعدادًا لفهم هذه الصفات والانفعال بها والتعبير عنها من خلال حياته وسلوكه ووعيه.

سادساً: تحقيق العدل الإلهي يوم القيامة

من حكمة الله في خلق الإنسان أن جعل له حياة أخرى بعد الموت، هي الحياة الحقيقية في الآخرة. ففي الدنيا قد يختلط الظالم بالمظلوم، والصالح بالفاسد، والغني بالفقير، دون أن ينال كلٌّ جزاءه العادل. لكن في الآخرة، يتجلّى تمام العدل الإلهي، ويُوفى كل امرئ جزاءه بميزان لا يَظلِم مثقال ذرّة.

لذلك، كان خلق البشر مقدّمة ضرورية لتحقيق عدالة لا نهائية في يوم الحساب، وهي العدالة التي لا يمكن إدراكها كاملة في الدنيا. إن وجود البشر هو السبيل لتطبيق العدل، وتفعيل الثواب والعقاب، وتمييز الخبيث من الطيب.

سابعاً: بناء الحضارات الإنسانية في ضوء الشرائع

خلق الله الإنسان بعقل مبدع، ولسان فصيح، وقدرة على التعلم والنمو الحضاري. ومن مقاصد خلقه أن يُنشئ حضارة قائمة على قيم السماء، يُعبّر فيها عن القيم العليا: الحق، الخير، الجمال، الحرية، الكرامة، التعاون، الرحمة، النظام. الحضارة الإنسانية ليست نقيضًا للدين، بل هي أحد مخرجاته، إذا تأسست على قاعدة إيمانية متينة.

ومن هنا جاءت الرسالات السماوية لتوجّه الإنسان لا ليهجر الحياة، بل ليزدهر فيها بوعي وقيم. الإنسان يُنتج الفن والعلم والتكنولوجيا، ولكن عليه أن يربطها بالغاية الكبرى من وجوده حتى لا يُنتج حضارة مادية تُدمّر نفسها.

ثامناً: تحقيق السعادة الأبدية للإنسان في الآخرة

في التصور الإسلامي، الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف، بل هي مزرعة الآخرة، كما ورد في الحديث النبوي الشريف. خلق الله الإنسان ليكون سعيدًا، والسعادة الحقيقية لا تتحقق إلا بلقائه، في دار السلام، الجنة، حيث يُجزى المحسن بإحسانه، ويُكرم المؤمن بإيمانه.

ولذلك، فإن خلق البشر لا يهدف فقط إلى الابتلاء، بل إلى منحهم فرصة نيل السعادة الخالدة، عبر مسيرة الإيمان والعمل الصالح. فالحياة الدنيا، رغم قصرها، هي فرصة نادرة وفريدة لصناعة المصير الأبدي، وهي نقطة العبور نحو النعيم المقيم أو العقاب العادل.

تاسعاً: تجلي الرحمة واللطف الإلهي

خلق الله البشر تجليًا من تجليات رحمته، قال تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ [الأعراف: 156]. فمجرد الوجود الإنساني في ذاته نعمة، لأن البديل هو العدم. والوجود يعني النعم المتنوعة: البصر، السمع، الصحة، العقل، العائلة، الأمل، الحب، وغير ذلك.

خلق الله الإنسان ليمنحه فرصة الوجود، ثم فرصة الهداية، ثم فرصة التوبة، ثم فرصة النجاة. وهذا التكرار في الفضل والرحمة يُظهر مقدار اللطف الإلهي الذي يغمر حياة الإنسان في كل مراحلها، حتى وإن لم يدركه.

عاشراً: تشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية والأخلاقية

من مقاصد خلق البشر أيضًا أن يعيشوا ضمن مجتمعات متشابكة، تنشأ فيها القيم، والتكافل، والتعليم، والرحمة، والتعاون، والصبر، والوفاء، وغيرها من الصفات التي لا تتجلى إلا بوجود الآخر. فبوجود الأبناء تظهر الأبوة، وبوجود الزوجة يظهر الحب، وبوجود الجار يظهر الإحسان، وهكذا.

هذه العلاقات هي ميدان مهم لتزكية النفس، وتنمية الأخلاق، وتدريب الروح على السمو، وهي جزء من الحكمة الربانية في جعل الإنسان كائنًا اجتماعيًا لا ينعزل.

جدول يوضح أبعاد خلق الإنسان والغايات منها

خاتمة غير تفاعلية

يتضح من خلال هذا العرض المفصل أن خلق الله للبشر لم يكن عشوائيًا أو عبثيًا، بل هو فعل حكيم نابع من مقاصد ربانية عظيمة تشمل العبادة والاستخلاف، والابتلاء والحرية، والتكريم الأخلاقي، وتجلّي الصفات الإلهية، وتحقيق العدل، وبلوغ السعادة الأبدية. ولأن الإنسان هو محور هذا الخلق، فإنه مكلّف بمسؤوليات جليلة، تستوجب منه أن يعيش حياة واعية، تُترجم مقاصد الخلق إلى سلوك يومي، وإلى إيمان حي، وإلى حضارة فاعلة تستمد قيمها من النور الإلهي.

المراجع:

1. الطبري، تفسير جامع البيان في تأويل آي القرآن

2. ابن القيم، مفتاح دار السعادة