غاية الحياة: السعادة أم الفائدة؟
لطالما كان السؤال حول غاية الحياة محطًّا للعديد من الفلاسفة، المفكرين، والدعاة في مختلف الأزمنة. فمنذ العصور القديمة، يتناول البشر مسألة غاية وجودهم على هذه الأرض، ويتسائلون ما إذا كانت غاية الحياة تكمن في تحقيق السعادة الشخصية أم في السعي لتحقيق الفائدة والفاعلية في المجتمع أو للعالم. هذا التساؤل ليس مجرد قضية فلسفية عابرة، بل هو نقطة محورية لفهم الحياة البشرية ومعناها، ويعكس تصورنا للعلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد ونفسه.
عندما نناقش هذا الموضوع، يتبادر إلى الذهن سؤالان رئيسيان: هل الحياة تهدف إلى الحصول على السعادة الذاتية للفرد؟ أم أن هدفها الحقيقي يكمن في تحقيق فائدة أوسع تتجاوز الفرد نحو المجتمع أو العالم؟ وفي هذا المقال، سنستعرض هذه المسألة من زوايا متعددة، مع تحليل وجهات النظر المختلفة حول هذه القضية.
الفائدة: حياة معنوية ذات هدف أسمى
من منظور فئة من المفكرين والفلاسفة، الحياة ليست مجرد رحلة فردية بحثًا عن السعادة أو المتعة الذاتية. بل هي رحلة ذات بعد جماعي وأخلاقي، حيث ينبغي أن تسهم حياة الفرد في تعزيز رفاهية المجتمع وتحقيق فائدة كبرى للبشرية جمعاء. قد يتبنى هذا المفهوم العديد من التوجهات الدينية والفلسفية التي ترى أن وجود الإنسان في هذه الحياة ليس عبثيًا، بل هو جزء من مهمة أكبر تهدف إلى تحسين العالم والمساهمة في ازدهاره.
على سبيل المثال، يرى الفلاسفة الوجوديون مثل جان بول سارتر أن غاية الحياة لا تكمن في السعي لتحقيق سعادة فردية، بل في تحديد الإنسان لوجوده وأهدافه من خلال العمل والعطاء للآخرين. فالإنسان، وفقًا لهذه الفلسفة، ليس موجودًا لإشباع رغباته الخاصة فقط، بل هو موجود ليتفاعل مع محيطه ويخلق قيمة من خلال أفعاله. وهذا لا يعني أن السعادة لا تلعب دورًا في حياة الفرد، بل إن السعادة الناتجة عن عمل هادف تكون أعمق وأكثر استمرارية من تلك الناتجة عن إشباع رغبات شخصية ضيقة.
السعادة: الهدف الفطري للفرد
في المقابل، يرى بعض المفكرين أن غاية الحياة تكمن في السعادة الفردية، وهو ما يطرح العديد من المدارس الفكرية التي تعزز فكرة السعي وراء الراحة النفسية والميل نحو التوازن الداخلي. هذا الرأي يتبناه العديد من الفلاسفة في مدرسة اللذة مثل أبيقور، الذي يعتبر أن الحياة المثلى هي التي تتسم باللذة والابتعاد عن الألم، حيث يرى أن السعادة الحقيقية تنبع من التوازن بين الرغبات والطموحات وحياة متواضعة.
السعادة، من هذا المنظور، ليست بالضرورة مرتبطة بالتحقيق الكامل لأهداف الفرد، ولكنها تتعلق أكثر بقدرة الإنسان على الاستمتاع بالحاضر، وتقدير اللحظات البسيطة في الحياة، مع مراعاة الحاجات النفسية والجسدية. من هذا المنطلق، قد يتبنى الفرد مفهومًا للسعادة يعتمد على العيش في اللحظة والتخلص من التوترات المفرطة التي تنشأ من الطموحات غير المتوازنة أو السعي المستمر وراء الثروة أو المنصب الاجتماعي.
هل السعادة والفائدة مفهومان متناقضان؟
قد يعتقد البعض أن السعي وراء السعادة والفائدة متناقضًا أو لا يمكن دمجهما في حياة واحدة. إذ يراهن البعض على أن الشخص الذي يسعى لتحقيق سعادة شخصية قد لا يكون قادرًا على تقديم فائدة حقيقية للمجتمع، بينما يرى آخرون أن الشخص الذي يسعى لتحقيق الفائدة العامة قد يضحي بسعادته الشخصية في هذه العملية. لكن هل حقًا يتناقض السعي وراء السعادة مع السعي لتحقيق الفائدة؟ يمكننا أن نرى أن هذين المفهومين لا يجب أن يكونا في صراع دائم.
السعادة والفائدة قد يتكاملان في الحياة البشرية، فالسعي لتحقيق أهداف شخصية متوازنة قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تحقيق فائدة اجتماعية. على سبيل المثال، عندما يسعى الإنسان لتحقيق سعادة نابعة من مساعدة الآخرين أو من الإسهام في تطور المجتمع، فإنه في الوقت نفسه يحقق فائدة اجتماعية، وهو ما يحقق التوازن بين الجانبين. قد يشمل ذلك المشاركة في الأعمال الخيرية، تحسين ظروف العمل، أو حتى بناء بيئة اجتماعية مليئة بالتعاون والمحبة.
الفائدة والسعادة في التقليد الديني
تُعد الأديان من أكبر المؤثرات في الفكر البشري حول معنى الحياة وغايتها. في الإسلام، على سبيل المثال، لا يتم الفصل بين السعادة والفائدة؛ إذ يرى المؤمن أن سعيه في الحياة هو لتحقيق رضا الله، وهو هدف يتضمن في جوهره تحقيق السعادة الشخصية من خلال الصلاة، العبادة، والعمل الصالح. من خلال هذه الفائدة الروحية، يسعى المسلم إلى تحسين حياته الخاصة وكذلك خدمة المجتمع.
في المسيحية، تُمثل المحبة والخدمة للآخرين محركًا رئيسيًا للإنسان، وهو ما يتقاطع مع مفهوم الفائدة الاجتماعية التي تأتي من فعل الخير. وفي نفس الوقت، يتم التأكيد على أن السعادة الحقيقية تأتي من العلاقة مع الله والآخرين، ما يعني أن السعي وراء الفائدة الاجتماعية يعزز السعادة الروحية للفرد.
السعادة في ظل التكنولوجيا والمجتمع الحديث
إن التطور التكنولوجي السريع في العصر الحديث قد أضاف بُعدًا جديدًا لتساؤلات الإنسان حول غاية الحياة. في ظل وسائل التواصل الاجتماعي والثقافة الاستهلاكية، أصبح الكثير من الأفراد يقيسون سعادتهم من خلال المتع اللحظية، مثل الرفاهية المادية أو الشهرة. ومع ذلك، تظهر الدراسات النفسية أن هذه الأنواع من السعادة لا تؤدي إلى رضا دائم أو عميق، بل غالبًا ما تنتج عنها مشاعر من القلق أو حتى الاكتئاب نتيجة للمقارنات الاجتماعية المستمرة.
من ناحية أخرى، فإن التقدم التكنولوجي أيضًا يمكن أن يسهم في الفائدة العامة من خلال تعزيز فرص التعلم، التواصل، والإبداع. ففي ظل عصر المعلومات، يمكن للفرد أن يسهم في المجتمع من خلال الابتكار التكنولوجي أو من خلال استخدام منصات الإنترنت لمساعدة الآخرين وتعليمهم. من هذا المنظور، لا تتناقض الفائدة مع السعادة بل قد تعززها.
السعادة والفائدة: محاور متشابكة
في الختام، يبدو أن غاية الحياة ليست فقط السعي وراء السعادة أو الفائدة بشكل منفصل، بل هي مسعى يشمل جوانب متعددة من الوجود البشري. السعي وراء السعادة لا يجب أن يكون محصورًا في إرضاء الذات بشكل مفرط، بينما السعي لتحقيق الفائدة لا يجب أن يكون على حساب الراحة النفسية للفرد. يمكن الجمع بين السعادة والفائدة في رحلة متوازنة، حيث يسعى الإنسان لتحقيق التوازن بين الإشباع الشخصي والمساهمة في رفاهية الآخرين.
قد تتغير مفاهيم السعادة والفائدة بناءً على السياقات الثقافية والدينية والبيئية التي ينتمي إليها الفرد. ومع ذلك، يظل السؤال حول غاية الحياة واحدًا من أكثر الأسئلة تعقيدًا وتنوعًا في الفكر الإنساني، الذي يستمر في التطور مع تقدم الإنسان في فهمه لذاته وبيئته.
