عمل المرأة بين الدين والمجتمع

عمل المرأة: تعريفه، دوافعه، أثره على المجتمع، وحكمه في الإسلام

يُعد عمل المرأة من القضايا الاجتماعية والفكرية الشائكة التي شغلت المجتمعات البشرية منذ بدايات النهضة الحديثة، وازدادت أهميته مع التغيرات المتسارعة التي طرأت على أنماط الحياة، والاقتصاد، والثقافة، وأدوار الجنسين داخل المجتمع. وقد تنوعت الآراء حول عمل المرأة بين مؤيد ومعارض، وتداخلت في تلك الآراء عوامل الدين، والتقاليد، والحاجات الاقتصادية، والتطورات الاجتماعية. ومع بروز المرأة في ميادين العلم والعمل والابتكار، بات الحديث عن عمل المرأة ضرورة لفهم أبعاده المختلفة وتأثيراته على بنية المجتمع.

في هذا المقال، سيتم تناول عمل المرأة من خلال أربعة محاور رئيسية: تعريفه، ودوافعه، وأثره على المجتمع، وحكمه في الإسلام، ضمن سياق شامل يراعي التغيرات التاريخية والثقافية والدينية والاقتصادية التي شكلت حضور المرأة في سوق العمل.

أولاً: تعريف عمل المرأة

يُقصد بعمل المرأة قيامها بأي نشاط اقتصادي أو إنتاجي أو مهني خارج نطاق الأعمال المنزلية، سواء في القطاع العام أو الخاص، لقاء أجر مالي أو بدون أجر، متى كان هذا العمل منظّماً وهادفاً. ولا يقتصر مفهوم العمل على الوظائف التقليدية أو الأعمال المكتبية، بل يشمل أيضاً الحرف، والفنون، والتجارة، والصناعة، والطب، والتعليم، وسائر المهن التي تساهم في النمو الاقتصادي والاجتماعي.

ويختلف تعريف عمل المرأة باختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية، ففي بعض البيئات يُعتبر العمل داخل المنزل، مثل تربية الأطفال والعناية بالأسرة، شكلاً من أشكال العمل غير مدفوع الأجر. أما في المجتمعات التي تعتمد على التصنيف الاقتصادي للعمل، فيتم حصر التعريف في الأنشطة الإنتاجية ذات العائد المالي المباشر.

ثانياً: دوافع عمل المرأة

تتعدد الدوافع التي تقود المرأة إلى العمل، ويمكن تصنيفها إلى دوافع اقتصادية، اجتماعية، نفسية، وثقافية، وتكمن في التفاصيل التالية:

1. الدوافع الاقتصادية

• الإسهام في دخل الأسرة: مع تزايد تكاليف المعيشة، بات من الضروري أن تشارك المرأة في دعم الاقتصاد العائلي، خاصة في الطبقات المتوسطة والفقيرة.

• الاستقلال المالي: تسعى الكثير من النساء إلى تحقيق نوع من الاستقلال الاقتصادي الذي يمنحهن حرية القرار والكرامة الإنسانية، ويقلل من تبعيتهن الاقتصادية للزوج أو الأسرة.

• الظروف القاهرة: في بعض الحالات، تضطر المرأة للعمل بسبب غياب المعيل، سواء بالوفاة أو الطلاق أو العجز.

2. الدوافع الاجتماعية

• تغير المفاهيم الاجتماعية: شهدت المجتمعات تحولات في النظرة التقليدية لدور المرأة، حيث لم تعد تقتصر على كونها ربة منزل، بل أصبحت شريكاً في التنمية.

• التعليم وتطور الوعي: بفضل ارتفاع معدلات تعليم الفتيات، أصبحت المرأة مؤهلة علمياً ومهنياً للمنافسة في سوق العمل.

• النماذج الملهمة: ظهرت نساء في مواقع قيادية ومهنية بارزة، ما شجّع أخريات على خوض مجال العمل والثقة بقدراتهن.

3. الدوافع النفسية والثقافية

• تحقيق الذات: تجد العديد من النساء في العمل وسيلة للتعبير عن إمكاناتهن، وتأكيد ذواتهن في المحيط الاجتماعي.

• كسر الروتين: يوفر العمل متنفساً من رتابة الحياة المنزلية، ويسهم في توسيع شبكة العلاقات الاجتماعية.

• الطموح الشخصي: هناك من النساء من لديهن رغبة داخلية عميقة للنجاح المهني والتميز الوظيفي.

ثالثاً: أثر عمل المرأة على المجتمع

يحمل عمل المرأة انعكاسات عميقة على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتتفاوت هذه الانعكاسات بين الإيجابية والسلبية، تبعاً لمدى تنظيم العمل، ومدى التوازن بين الأدوار الأسرية والمهنية، والسياسات العامة المتعلقة بالمرأة العاملة.

1. الأثر الاقتصادي

• زيادة الناتج المحلي: تمثل النساء قوة عمل ضخمة يمكن أن تسهم في تنمية الاقتصاد الوطني بشكل كبير إذا ما أُحسن استثمارها.

• تحسين الوضع الاقتصادي للعائلات: يُساهم دخل المرأة في تعزيز الاستقرار المالي للأسرة.

• تقليل نسب الفقر: انخراط المرأة في سوق العمل يعزز من جهود مكافحة الفقر، خاصة في الدول النامية.

2. الأثر الاجتماعي

• تحقيق التوازن في الأدوار الاجتماعية: أصبح للمرأة حضور متزايد في مؤسسات صنع القرار والمجتمع المدني، ما يدفع نحو مجتمع أكثر عدلاً ومساواة.

• التأثير في الأجيال القادمة: المرأة العاملة التي تربي أبناءها على الطموح والاستقلال تساهم في بناء جيل واعٍ ومسؤول.

• تغيير النظرة النمطية: العمل يدحض الصورة التقليدية للمرأة على أنها كائن تابع أو عاجز، ويؤكد قدرتها على الإنجاز والإبداع.

3. الأثر الثقافي والتربوي

• نقل الخبرات: من خلال عملها في مجالات التعليم والثقافة، تساهم المرأة في نشر الوعي والقيم الإيجابية داخل المجتمع.

• إعادة تعريف مفاهيم النجاح: أصبح النجاح لا يُقاس فقط من خلال الرجل، بل أيضاً من خلال إنجازات المرأة ومشاركتها الفعالة.

4. التحديات المحتملة

• ازدواجية الأدوار: تعاني بعض النساء من ضغوطات بسبب الجمع بين العمل خارج المنزل والواجبات الأسرية.

• التمييز المهني: ما تزال هناك فجوات في الأجور، والفرص، والمعاملة بين الجنسين في بعض البيئات المهنية.

• الإجهاد والتوتر: تتعرض المرأة العاملة لمستويات عالية من الضغط النفسي، خاصة إذا لم تحظَ بالدعم الأسري أو المؤسسي.

رابعاً: حكم عمل المرأة في الإسلام

يتناول الإسلام قضية عمل المرأة من منطلق شامل يوازن بين الحقوق والواجبات، ويأخذ في الحسبان مقاصد الشريعة في حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

1. الإقرار بمشروعية العمل للمرأة

أجاز الإسلام للمرأة العمل ضمن ضوابط محددة، فقد عملت النساء في عهد الرسول محمد ﷺ في مجالات متعددة، مثل التجارة (كدور السيدة خديجة رضي الله عنها)، والتمريض (كرفيدة الأنصارية)، والتعليم، وحتى الميدان الحربي كمساعدات للمجاهدين.

جاء في قوله تعالى:

“للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن” [النساء: 32]

وهو دليل واضح على أن الإسلام يعترف بحق المرأة في الكسب والعمل المشروع.

2. الضوابط الشرعية لعمل المرأة

حدد الإسلام مجموعة من الضوابط التي تضمن ألا يكون العمل سبباً في اختلال القيم أو إيذاء المرأة أو إضعاف الأسرة، ومن أبرز هذه الضوابط:

• ألا يتعارض العمل مع واجباتها الأسرية الأساسية، كالأمومة، وتربية الأبناء، ورعاية البيت.

• أن يكون العمل مشروعاً في ذاته، فلا يجوز لها العمل في مجالات تخالف الشريعة.

• الالتزام باللباس الشرعي والحشمة، أثناء أداء العمل.

• عدم الخلوة أو الاختلاط المريب، الذي قد يعرّضها أو غيرها للفتنة.

• أن يتم العمل برضاها الكامل، دون إكراه أو ضغط اجتماعي.

3. تكريم المرأة العاملة في الإسلام

أعطى الإسلام أهمية خاصة للمرأة كإنسانة كاملة الحقوق، وأعفى المرأة من واجب النفقة حتى وإن كانت ثرية، ورفع عنها القوامة، وأعطاها الحق في التملك والتصرف في مالها، كما منحها أجر الكسب إذا التزمت بالضوابط، واعتبر عملها عبادة إذا نُوي به وجه الله.

جدول يوضح مقارنة بين تأثير عمل المرأة في مجالات مختلفة

الخلاصة

إن عمل المرأة ليس ظاهرة طارئة على المجتمعات الإسلامية أو الإنسانية، بل هو امتداد طبيعي لمكانة المرأة في النسيج الاجتماعي، واعتراف بكفاءتها ومشاركتها الفعالة في مسيرة البناء والتنمية. ولا شك أن عمل المرأة يفتح أمام المجتمعات آفاقاً جديدة في الاقتصاد والثقافة والتربية، شرط أن يكون محكوماً بالضوابط الشرعية والأخلاقية والاجتماعية التي تضمن تحقيق التوازن بين أدوارها المتعددة. وفي ظل الواقع المعاصر، تزداد الحاجة إلى دعم المرأة العاملة بسياسات تراعي خصوصيتها، وتكفل لها الأمان، وتمنحها فرص النمو المهني دون أن تتخلى عن قيمها أو دورها الأسري.

المراجع

• القرطبي، تفسير الجامع لأحكام القرآن

• د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته