العملة الرسمية لدولة جورجيا: اللاري الجورجي – تاريخها، تطورها، وأهميتها الاقتصادية

مقدمة

تقع جورجيا في منطقة جنوب القوقاز، وهي دولة ذات تاريخ طويل وثقافة غنية، تمر حالياً بمرحلة من التحول الاقتصادي والسياسي جعلتها محط أنظار المستثمرين والسياح على حد سواء. في قلب هذا التحول تقع عملتها الرسمية، اللاري الجورجي، التي تُعد من أبرز رموز السيادة والاستقرار النقدي في البلاد. تتجلى أهمية اللاري ليس فقط باعتباره وسيلة للتبادل النقدي، بل بوصفه أداة تعكس التوجهات الاقتصادية والسياسات النقدية للدولة الجورجية في مرحلة ما بعد الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي.

أصل التسمية والتعريف بالعملة

كلمة “لاري” (ლარი) مأخوذة من الكلمة الجورجية القديمة التي تعني “الممتلكات” أو “الثروة”. وقد تم اختيار هذا الاسم للعملة الجديدة التي تبنتها جورجيا في منتصف التسعينات من القرن العشرين، لتكون تعبيراً عن امتلاك الدولة لاستقلالها الاقتصادي والسياسي بعد عقود من الخضوع للنظام السوفيتي.

الرمز الرسمي للعملة هو ₾، ويُكتب اختصارها بـ GEL، وفقاً للمعايير الدولية ISO 4217. وتنقسم اللاري إلى 100 وحدة أصغر تُعرف باسم “تتري” (თეთრი).

تاريخ العملة الجورجية

1. العصور القديمة والوسطى

عرفت جورجيا تداول العملات منذ العصور القديمة، حيث كانت تستخدم عملات اليونان وروما، ثم البيزنطية والفارسية. ومع دخول المسيحية في القرن الرابع الميلادي، بدأت تظهر مسكوكات محلية محدودة تحمل رموزًا دينية ووطنية.

2. فترة الحكم الروسي والسوفيتي

منذ القرن التاسع عشر وحتى بداية التسعينات، كانت جورجيا خاضعة للهيمنة الروسية ثم السوفيتية، ما يعني أنها استخدمت الروبل الروسي ومن بعده الروبل السوفيتي عملة رسمية، دون وجود عملة وطنية خاصة تعكس هويتها الاقتصادية.

3. ما بعد الاستقلال: الانتقال إلى العملة الوطنية

بعد إعلان الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991، بدأت جورجيا في البحث عن هوية نقدية مستقلة. وفي البداية، أصدرت عملة انتقالية تُعرف بـ”الكوبون الجورجي” (Georgian Coupon)، والتي عانت من تضخم حاد وانعدام في الثقة.

لمواجهة هذه التحديات، قررت الحكومة الجورجية والبنك الوطني لجورجيا اعتماد عملة جديدة مستقرة، فتم إصدار اللاري الجورجي رسميًا في 2 أكتوبر 1995، ليحل محل الكوبون بنسبة تحويل 1 لاري = 1,000,000 كوبون، كإجراء يهدف لوقف التضخم وتحقيق الاستقرار النقدي.

تصميم العملة وأنواعها

1. الأوراق النقدية

يصدر البنك الوطني الجورجي عدة فئات من الأوراق النقدية، وتتميز بتصاميم فنية تعكس التاريخ والثقافة الجورجية، حيث تُصور شخصيات بارزة من الأدب والسياسة والفن، إلى جانب معالم أثرية ومناظر طبيعية.

الفئات المتداولة حالياً تشمل:

تم تطوير التصميم الجديد لهذه الأوراق بين عامي 2016 و2019 لتحسين الخصائص الأمنية ومقاومة التزوير، مع الحفاظ على هوية العملة البصرية.

2. العملات المعدنية

تُستخدم العملات المعدنية في المعاملات الصغيرة وتتنوع فئاتها كما يلي: 1، 2، 5، 10، 20، 50 تتري، بالإضافة إلى عملات 1 و2 لاري.

تتميز العملات المعدنية الجورجية بخفة الوزن والمتانة، وهي مصنوعة من مواد مقاومة للتآكل. يحمل كل وجه منها رموزًا تمثل الهوية الجورجية كالنقوش الجورجية التقليدية والحيوانات الرمزية مثل الأسد والظباء.

السياسة النقدية ودور البنك الوطني

يتولى البنك الوطني لجورجيا (NBG) المسؤولية الكاملة عن إدارة السياسة النقدية في البلاد، بما يشمل إصدار العملة، ضبط التضخم، مراقبة السيولة، والحفاظ على الاستقرار المالي. يتبع البنك نهجاً مرناً يستند إلى التوقعات الاقتصادية، ويستخدم سعر الفائدة كأداة رئيسية للتحكم في المعروض النقدي.

يُعد استقلال البنك الوطني دستورياً، وهو لا يتلقى تعليمات من السلطة التنفيذية، ما يساهم في بناء الثقة داخليًا وخارجيًا بالعملة الجورجية.

سعر صرف اللاري مقابل العملات الأجنبية

يُعد اللاري عملة ذات تعويم حر، ما يعني أن سعر صرفه يتحدد وفقاً لآليات السوق وقوى العرض والطلب. ويتأثر بشكل كبير بالظروف الاقتصادية الداخلية والعوامل الجيوسياسية المحيطة.

فيما يلي لمحة تاريخية عن متوسط سعر صرف اللاري مقابل الدولار الأمريكي خلال الأعوام الأخيرة:

شهد اللاري تذبذبات ملحوظة بسبب تداعيات جائحة كورونا، التوترات في منطقة القوقاز، وتأثير الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن البنك الوطني استطاع الحفاظ على توازن نسبي في ظل تلك المتغيرات.

دور العملة في الاقتصاد الجورجي

1. الاستقرار الاقتصادي

إصدار اللاري ساعد في استقرار الاقتصاد الجورجي بعد سنوات من التضخم الجامح خلال فترة الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي إلى السوق الحرة. فقد تمكّن البنك الوطني من الحد من التضخم وتعزيز الثقة المحلية والدولية بالاقتصاد الجورجي.

2. تحفيز الاستثمار

وجود عملة وطنية مستقرة يسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث يسهل على المستثمرين تقييم جدوى مشاريعهم بناء على مؤشرات نقدية واضحة ومباشرة. وقد ساهمت السياسات النقدية المسؤولة في تعزيز تصنيف جورجيا الائتماني وتحسين مناخ الأعمال فيها.

3. دعم الصادرات والسياحة

يساعد سعر صرف اللاري المعتدل في جعل المنتجات والخدمات الجورجية أكثر تنافسية في الأسواق العالمية، وهو عامل مهم في قطاعي التصدير والسياحة. وقد شهدت جورجيا طفرة سياحية منذ 2010 نتيجة الاستقرار النقدي والاقتصادي، حيث أصبح بإمكان الزوار التعامل بسهولة مع اللاري.

العملات الرقمية والسياسة النقدية المستقبلية

يتجه البنك الوطني الجورجي نحو دراسة إمكانية إصدار عملة رقمية وطنية تُعرف باسم اللاري الرقمي، بما يتماشى مع التحولات العالمية في النظام المالي. وقد بدأ البنك مشروعًا تجريبيًا في هذا الاتجاه، يهدف إلى:

• تسريع عمليات الدفع.

• تقليل الاعتماد على النقد الورقي.

• تعزيز الشمول المالي خاصة في المناطق الريفية.

هذه الخطوة تضع جورجيا في مصاف الدول السباقة في مجال التكنولوجيا المالية (FinTech) في منطقة القوقاز وشرق أوروبا.

العملات المزيفة وجهود المكافحة

مع تطور الوسائل التكنولوجية، ظهرت بعض المحاولات لتزوير اللاري، وخاصة الأوراق من فئة 100 و200 لاري. غير أن البنك الوطني طور منظومة متكاملة لمكافحة التزوير تشمل:

• تضمين ميزات أمان متقدمة في العملة.

• توعية الجمهور بعلامات التحقق.

• التعاون مع البنوك وشركات الصرافة لمراقبة حركة العملة.

وقد نجحت هذه الجهود في الحد من عمليات التزوير، كما أن معدل تزوير اللاري يبقى من أدنى المعدلات مقارنة بالدول المجاورة.

الصرافة والتحويلات الدولية

تنتشر خدمات الصرافة والتحويلات المالية في جورجيا بشكل كبير، خاصة في المدن الكبرى كمثل تبليسي وباتومي. ويمكن للمواطنين والمقيمين إجراء تحويلات مالية بسهولة باستخدام شبكات مثل:

• Western Union

• MoneyGram

• TransferWise

• Revolut

كما أن النظام البنكي الجورجي متصل بشبكة SWIFT العالمية، ما يتيح التعاملات المالية الدولية بشكل فعال.

العملة والسياحة

يعتمد الكثير من الزوار لجورجيا على التعامل المباشر باللاري، بالرغم من قبول بعض المتاجر الكبرى والفنادق للدولار الأمريكي أو اليورو. وتتوفر مكاتب الصرافة في المطار، ومراكز المدن، إضافة إلى إمكانية السحب من أجهزة الصراف الآلي التي تدعم معظم البطاقات البنكية العالمية.

ينصح دائمًا بالتعامل بالعملة المحلية لتفادي فروقات أسعار الصرف عند الدفع بالعملات الأجنبية.

تطور اللاري في الاقتصاد الرقمي

أصبحت التطبيقات المصرفية الرقمية والمحافظ الإلكترونية جزءاً أساسياً من التعامل اليومي باللاري، ومن أبرز المنصات المعروفة في جورجيا:

• Bank of Georgia App

• TBC Mobile Banking

• PayBox

• MyGeld

هذه التطبيقات تسهّل دفع الفواتير، تحويل الأموال، الشراء الإلكتروني، وحتى استلام التحويلات من الخارج.

تأثير اللاري في السياسات الاجتماعية

تشير الدراسات الاقتصادية إلى أن استقرار اللاري ساهم بشكل غير مباشر في تقليل نسب الفقر، ودعم الطبقة المتوسطة، وذلك من خلال:

• المحافظة على القدرة الشرائية.

• ضمان استقرار الأسعار.

• تمكين البرامج الاجتماعية الحكومية من التخطيط على المدى الطويل دون تأثر كبير بالتقلبات النقدية.

الخلاصة

اللاري الجورجي ليس مجرد أداة نقدية، بل يمثل عنصراً محورياً في بناء الدولة الحديثة في جورجيا، إذ يعكس جهود الحكومة في تحقيق الاستقلال الاقتصادي، وتعزيز الثقة بالقطاع المالي، وتهيئة بيئة مستقرة للنمو والاستثمار. عبر سياسات نقدية حذرة، وإصلاحات مستمرة في القطاع المصرفي، استطاعت جورجيا أن تبني عملة وطنية قوية تتماشى مع تطورات الاقتصاد العالمي، دون التفريط في خصوصيتها الثقافية والتاريخية.

المصادر

1. National Bank of Georgia – www.nbg.gov.ge

2. IMF Country Report – Georgia (Latest Economic Review)