تأثير التحيز المعرفي على القرارات

التحيز المعرفي وتأثيره في صناعة القرارات

إن التحيز المعرفي هو أحد الظواهر النفسية التي تؤثر في كيفية تفسير الإنسان للمعلومات واتخاذه للقرارات. فعندما يتعرض الفرد لمواقف معقدة أو يحتاج إلى اتخاذ قرارات تتطلب فحصاً دقيقاً للخيارات المتاحة، غالباً ما يتأثر بتوجهات غير منطقية أو انحيازات متأصلة في تفكيره. تختلف أنواع التحيزات المعرفية وتشمل تحيزات فردية تنبع من الخبرات الشخصية، بالإضافة إلى تلك التي تتأثر بالعوامل الاجتماعية والثقافية. لذلك، فإن التأثير الذي يمارسه التحيز المعرفي في صناعة القرارات قد يكون واسع النطاق، ويشمل جميع جوانب الحياة، سواء كانت مهنية أو شخصية.

ماهية التحيز المعرفي

قبل التطرق إلى كيفية تأثير التحيز المعرفي في قراراتنا، من المهم أولاً تعريف ما هو التحيز المعرفي. يشير التحيز المعرفي إلى الاتجاهات الثابتة التي يتخذها الإنسان أثناء معالجة المعلومات والتفكير، والتي يمكن أن تؤدي إلى تحريف الواقع أو إلى اتخاذ قرارات غير موضوعية. هذه الانحيازات قد تكون ناتجة عن افتراضات مسبقة أو مشاعر ذاتية، وتعمل على تأكيد معتقدات الشخص السابقة، مما يجعل القدرة على اتخاذ قرارات منطقية وصحيحة أكثر صعوبة.

كيف يؤثر التحيز المعرفي في قراراتنا؟

1. التحيز التأكيدي (Confirmation Bias)

أحد أكثر أنواع التحيز المعرفي شيوعاً هو التحيز التأكيدي، الذي يشار إليه أحياناً بتعزيز المعتقدات السابقة. في هذا النوع من التحيز، يفضل الشخص قبول المعلومات التي تتوافق مع آرائه أو معتقداته الحالية، ويتجاهل أو يقلل من أهمية المعلومات التي تتعارض مع هذه الآراء. هذا قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير منطقية أو تحليلات غير دقيقة، حيث يقوم الفرد بالتركيز فقط على الأدلة التي تؤكد صحة اختياراته السابقة، بدلاً من الانفتاح على معلومات جديدة قد تكون أكثر صواباً.

2. تحيز الارتباط الزائف (Illusory Correlation)

التحيز المعرفي الآخر الذي يؤثر في قراراتنا هو تحيز الارتباط الزائف. هذا التحريف يحدث عندما يعتقد الأفراد أن هناك ارتباطًا بين أمرين، رغم أن العلاقة بينهما قد تكون غير موجودة أو غير ذات مغزى. على سبيل المثال، قد يربط شخص بين حدوث أمرين معاً على الرغم من أنهما قد يكونان غير مرتبطين، كأن يعتقد أن حمل مظلة في يوم غائم يجلب المطر بشكل أكثر تكراراً من غيره. هذا التحيز يمكن أن يقود إلى اتخاذ قرارات غير مستندة إلى أدلة منطقية، مثل تفادي نشاطات معينة بسبب ارتباط زائف مع نتائج غير مرغوب فيها.

3. التحيز في التقدير (Anchoring Bias)

يحدث التحيز في التقدير عندما يعتمد الشخص بشكل مفرط على أول معلومة يتلقاها عند اتخاذ قرار. هذه المعلومة الأولية، المعروفة بـ “المرساة” أو “الأنكور”، تلعب دوراً كبيراً في تشكيل تقييمات الشخص لاحقاً. على سبيل المثال، إذا تم عرض منتج بسعر مرتفع في البداية ثم تم تخفيضه، فإن المستهلك قد يعتبر السعر المخفض عرضًا مغريًا، حتى وإن كان لا يزال مرتفعًا مقارنة بأسعار المنافسين. يمكن أن يؤثر هذا التحيز في قرارات الشراء، وكذلك في الكثير من القرارات اليومية التي تتطلب مقارنة بين الخيارات.

4. تحيز التوافر (Availability Bias)

تحيز التوافر هو ميل الناس إلى تقييم احتمال حدوث حدث ما بناءً على مدى سهولة استرجاع المعلومات المتعلقة به من الذاكرة. إذا كانت هناك حادثة مشهورة أو مؤثرة تتعلق بموقف معين، فقد يبالغ الشخص في تقدير احتمالية حدوث ذلك الموقف في المستقبل. على سبيل المثال، إذا سمع شخص ما عن حادث طائرة في الأخبار، فقد يعتقد بشكل غير منطقي أن السفر بالطائرة أصبح أكثر خطورة، على الرغم من أن حوادث الطيران نادرة للغاية. هذا التحيز قد يؤثر على قرارات الأفراد في اتخاذ خيارات قد تكون غير مدروسة بناء على المعلومات المتاحة لهم في اللحظة.

5. التحيز الاجتماعي (Social Biases)

تلعب العوامل الاجتماعية دوراً كبيراً في تشكيل قراراتنا. عندما نكون جزءًا من مجموعة أو مجتمع، غالبًا ما نتأثر برأي الأغلبية أو نتبع اتجاهات معينة بناء على توقعات المجتمع أو الثقافة. يطلق على هذا التحيز “تحيز الإجماع الاجتماعي” حيث يؤثر الضغط الاجتماعي على صنع القرار. قد يؤدي ذلك إلى اتخاذ قرارات لا تتوافق بالضرورة مع القيم الشخصية أو المنطق، بل تكون مدفوعة بالرغبة في الامتثال أو عدم التفرد عن الآخرين.

6. تحيز العاطفة (Affective Bias)

التحيز العاطفي يحدث عندما تؤثر مشاعر الشخص في تقديراته وقراراته. قد يبالغ الأشخاص في تقدير تأثير الأحداث بناءً على مشاعرهم الشخصية تجاه المواقف أو الأشخاص المعنيين. على سبيل المثال، قد يؤدي حب الشخص لشخص آخر إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية لصالحه، حتى لو كانت تلك القرارات ليست في مصلحته الشخصية على المدى البعيد.

7. التحيز في الذاكرة (Memory Bias)

تحدث بعض التحيزات في الذكريات عندما يعيد الشخص تذكر أحداث معينة بشكل مشوه أو مغلوط. هذا النوع من التحيز يؤدي إلى إعادة تشكيل الذكريات السابقة بطرق تتناسب مع الانحيازات الحالية للفرد. على سبيل المثال، قد يميل شخص ما إلى تذكر الماضي بشكل أكثر إيجابية مما كان عليه في الواقع، مما قد يؤثر في اتخاذ قرارات تتعلق بالعلاقات الشخصية أو حتى القرارات المهنية بناءً على تصورات مشوهة للماضي.

أثر التحيز المعرفي في اتخاذ القرارات الشخصية والمهنية

1. في الحياة الشخصية

في القرارات الشخصية، يمكن أن يكون التحيز المعرفي له تأثير كبير على العلاقات الشخصية واتخاذ القرارات العاطفية. على سبيل المثال، في حالات العلاقات العاطفية، قد يتأثر الفرد بالتحيز التأكيدي، فيرى شريك حياته بطريقة إيجابية بشكل مفرط، مما قد يؤدي إلى تجاهل السلوكيات السلبية التي قد تكون خطيرة على العلاقة. كما أن التحيز العاطفي قد يجعل الأشخاص يتخذون قرارات غير منطقية بناءً على مشاعرهم تجاه شخص أو موقف معين، مما يعرضهم لمشاكل طويلة الأمد.

2. في الأعمال والقرارات المهنية

أما في المجال المهني، فإن التحيزات المعرفية قد تؤثر بشكل ملحوظ على اتخاذ القرارات التجارية والاستثمارية. فالمستثمر قد يتأثر بتأثير التوافر، فيميل إلى اتخاذ قرارات استثمارية بناءً على الأخبار السلبية أو الإيجابية الأخيرة المتعلقة بشركة أو سوق معين، دون النظر إلى الصورة الكاملة أو تحليل دقيق للأساسيات. من جهة أخرى، قد يؤدي تحيز الارتباط إلى اعتبار أن القرارات الأولى التي اتخذها المدير أو المستثمر هي الأفضل، مما يعوق التفكير النقدي والمراجعة المستمرة للقرارات.

كيف يمكن تقليل تأثير التحيز المعرفي؟

إن الوعي بالتحيزات المعرفية يعتبر الخطوة الأولى نحو تقليل تأثيرها في اتخاذ القرارات. يمكن تدريب الأفراد على مراقبة أفكارهم ومراجعة قراراتهم بطريقة نقدية. يمكن استخدام تقنيات مثل التفكير المنطقي والتحليل النقدي للتحقق من الأساسيات الموضوعية للمعلومات المتاحة، مما يساعد في اتخاذ قرارات أكثر توازناً. علاوة على ذلك، يمكن أن يساعد التنوع في الآراء والاستماع إلى وجهات نظر مختلفة في تقليل تأثير التحيزات المعرفية.