من مفكرة عاشق دمشقي
دمشق، هذه المدينة العتيقة التي يختزن كل حجر فيها حكاية، وكل زاوية تروي ذكريات أجيال امتدت عبر آلاف السنين، تظل بوصلة القلوب، وملاذاً لأرواح العاشقين الذين يجدون في شوارعها عبق الماضي وأصالة الحاضر. هنا، في مفكرتي، تنساب الكلمات كنبع لا ينضب من الحب والحنين، لتكشف عن مدينة لا تعرفها الكتب وحدها، بل ينبض بها القلب والذاكرة.
دمشق ليست مجرد مدينة؛ هي قصة حب متجددة تروى عبر الزمن. هي العاصمة التي تقف شامخة رغم كل ما مرّت به من حروب وتحديات، تحافظ على روحها ونبضها الخاص، كأنها كائن حي يتنفس الأمل والتاريخ في آن واحد. عشقي لدمشق ليس سطحياً، بل هو ذلك الانتماء العميق الذي يتغلغل في كل جزء من كياني، وأشعر به يتردد في صوت الأذان، ورائحة الياسمين التي تتسلل عبر الأبواب الخشبية القديمة.
في دمشق، تتشابك تفاصيل الحياة اليومية مع الفنون والآداب، فليس بغريب أن تجد الشاعر يخطّ أبياته بين أحضان أزقة باب توما أو سوق الحميدية، حيث تتلاقى أصوات الباعة مع همسات الزوار وأصوات المآذن التي تحكي تاريخ المدينة العريق. هنا، الزمن يتوقف للحظة، فتغدو ساعة التجوال في دروب المدينة رحلة لا تُنسى بين الماضي والحاضر.
أحد أكثر الأمور التي تثير إعجابي في دمشق هي قدرتها على الاحتفاظ بتقاليدها العريقة وسط تطورات العصر. لا يزال القهوة العربية تُقدّم على الطريقة التقليدية، حيث يُسكب البن على فوهة الركوة ثم يُصَب بفنّ لا يمكن تكراره. وهناك الحلويات الدمشقية الأصيلة كالكنافة الناعمة والمعمول، التي تحمل معها ذكريات الاحتفالات واللمة العائلية الدافئة.
البيوت الدمشقية، بكل تفاصيلها من نوافذها المزخرفة إلى فسحها الداخلية، تحكي عن ثقافة غنية تجمع بين الفخامة والبساطة في آن واحد. الباحة الداخلية المزدانة بأشجار البرتقال والزهور تمنح المنزل أجواءً هادئة تليق بالراحة والسكينة. تلك البيوت ليست مجرد مساكن، بل هي تعبير حي عن هوية المجتمع الدمشقي الذي يقدّر كرم الضيافة والعلاقات الاجتماعية.
المشي في أسواق دمشق هو تجربة فريدة من نوعها، حيث تختلط الروائح الزكية للبخور والتوابل مع ألوان السجاد اليدوي والمجوهرات التقليدية. سوق الحميدية، على سبيل المثال، هو قلب المدينة التجاري وروحها التي لا تنضب، يمكن للزائر أن يختبر هناك كيف أن كل بائع يحمل قصة، وكيف أن المارة ينسجون علاقات تشبه نسج الحكايات.
لكن دمشق لا تعيش فقط في صخب أسواقها، فهي أيضاً تعيش في صمت الجوامع والمساجد العتيقة، كجامع الأمويين الذي يُعتبر تحفة معمارية تجمع بين الفن الإسلامي والتراث التاريخي. زيارة هذا الجامع لا تعني فقط زيارة مكان عبادة، بل رحلة في عبق التاريخ وروحانية لا توصف، حيث يلتقي الزائر بجدران تحكي ألف سنة من الثقافة والدين.
على الرغم من تحديات الزمن التي ألمّت بدمشق، فإن روح المدينة لا تزال حية تتجدد مع كل شروق شمس. فالحياة تستمر بين ركام الذكريات وعبق الياسمين، وبين صوت الدفوف والموشحات التي تُغنى في المناسبات والاحتفالات. الدمشقيون، بأصالتهم وقوة عزيمتهم، يشكلون العمود الفقري لهذه المدينة، ويحملون معها حلم الحفاظ على تراث لا يمكن أن يُنسى.
الدمشق التي أحبّها ليست فقط تلك التي تجسدها الصور القديمة أو الأساطير، بل هي دمشق الحقيقية التي تراها في عيون أهلها، الذين يحتضنون ماضيهم بفخر ويصنعون حاضرهم بتفاؤل. إنها دمشق التي تتحدى الزمن، مدينة القلوب النابضة بالعشق، حيث يصبح كل شارع، وكل حجر، وكل نافذة شاهداً على قصة لا تنتهي من الولاء والحب.
تظل دمشق في مفكرتي ليست مجرد مكان، بل هي حضن الوطن وأمنية السلام، لوحة فنية مرسومة بألوان التاريخ، فيها الخير والوفاء، العراقة والجمال، حيث يلتقي القديم بالجديد في تناغم لا مثيل له. ومن هنا، يبقى العشق الدمشقي نبراساً لا ينطفئ، يُشعل شغف الحياة ويمنح الروح طاقة لا تنتهي، ليظل القلب مرتبطاً إلى الأبد بهذه المدينة التي تحمل في طياتها سر الخلود.
