عبرة أصحاب السبت في القرآن

قصة أصحاب السبت: العبرة الخالدة في مواجهة التحايل على شريعة الله

تُعدّ قصة أصحاب السبت من القصص القرآنية البارزة التي تحمل في طياتها دلالات عميقة تتعلق بمدى احترام الإنسان لأوامر الله وحدوده، وهي قصة تدور حول جماعة من بني إسرائيل، ابتلاهم الله تعالى بنوع خاص من الاختبار المتعلق بالتزامهم بالشريعة، وتحديدًا في مسألة الصيد يوم السبت، فانقسموا بين مطيعين ومتحايلين، حتى جاء العقاب الإلهي عبر تحويل المعتدين إلى قردة، ليكونوا عبرة لمن يعتبر.

الخلفية التاريخية والقرآنية

ذُكرت قصة أصحاب السبت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، أبرزها في سورة الأعراف، حيث قال الله تعالى:

﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ – الأعراف: 163

تتحدث الآية عن قرية من قرى بني إسرائيل الواقعة على شاطئ البحر، والتي اشتهرت بكثرة الحيتان في سواحلها. وقد فُرض عليهم تحريم العمل والصيد يوم السبت، وكان ذلك جزءًا من العهد الذي قطعه الله عليهم. غير أن بعضهم لم يلتزم بهذا الحكم، فابتدعوا وسائل للتحايل على الشريعة، ظانين أنهم قادرون على خداع الأمر الإلهي.

تفاصيل القصة كما وردت في كتب التفسير

وفقًا لما ذكره المفسرون أمثال ابن كثير والطبري والقرطبي، فإن القرية المشار إليها في القصة هي “أيلة” أو “قرية على شاطئ البحر الأحمر”، وكان أهلها قد ابتلاهم الله بمنع الصيد يوم السبت كاختبار للطاعة. وكانت الحيتان تظهر لهم في هذا اليوم بكثرة ملحوظة، فتثير في نفوسهم الرغبة في الصيد.

فما كان من بعضهم إلا أن احتال على هذا الأمر، فصاروا يضعون شِباكهم يوم الجمعة، فتقع فيها الحيتان يوم السبت، ثم يأتون يوم الأحد لأخذها، مدّعين أنهم لم يصطادوها يوم السبت مباشرة، بل فقط أخرجوها في اليوم التالي. هذا الفعل وصفه الله بأنه “عدوان في السبت”، ومثّل تحايلاً صريحًا على الحكم الشرعي.

تقسيم المجتمع إلى ثلاث فئات

انقسم أهل القرية إلى ثلاث طوائف:

1. الطائفة العاصية: وهي التي احتالت على الحكم واصطادت الحيتان بتحايل ظاهر.

2. الطائفة الوعظية: وهي التي أنكرت عليهم فعلهم ووعظتهم وذكّرتهم بعاقبة مخالفة أمر الله.

3. الطائفة الساكتة: التي لم تشارك في المعصية ولم تنكر، وربما كانت تبرر سكوتها بعدم جدوى النهي.

وقد بيّن الله في كتابه أن الطائفة التي وعظت وذكّرت، كانت ناجية، فقال تعالى:

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ – الأعراف: 165

فأنجى الله الذين نهوا عن السوء، وأهلك من اعتدوا. أما الطائفة الثالثة، فقد اختلف المفسرون في مصيرها، ولكن الرأي الغالب أنها لم تُذكر ضمن الناجين، مما يُحتمل معه أنها لم تنجُ لعجزها عن أداء واجب النهي عن المنكر.

العقوبة الإلهية

كانت نهاية القصة مأساوية ومخيفة؛ فقد مسخ الله المعتدين إلى قردة خاسئين. قال تعالى:

﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ – الأعراف: 166

وقد فسّر العلماء هذا المسخ على أنه كان مسخًا حقيقيًا، لا مجازيًا. أي أن الله تعالى غيّر هيئاتهم إلى هيئة القردة، فصاروا يُعرفون بذلك في القرية، وتحولت أجسادهم إلى آية بينة لكل من رآهم، فكانت عبرة شديدة ومُزلزلة لأهل القرية ولمن جاء بعدهم.

الدروس والعبر المستفادة من القصة

أولًا: تحريم الحيل على أحكام الله

من أهم ما تُبرزه القصة أن الحيلة على أوامر الله لا تُجدي نفعًا. فالله يعلم ما تخفي الصدور، والنية الفاسدة لا يمكن أن تُغطيها الأفعال الظاهرة. التحايل في الدين هو تعدٍ على حدود الله، حتى وإن تم بوسائل تبدو ظاهرًا “مشروعة”، ولذلك فإن الشريعة حرّمت ذلك.

ثانيًا: خطر السكوت على المنكر

السكوت على المعصية دون إنكار، خاصة إذا كان لدى الإنسان القدرة على التذكير والنهي، يُعدّ نوعًا من التقصير في الواجب الديني. فوظيفة النهي عن المنكر ركيزة أساسية في الإصلاح المجتمعي، والتفريط فيها يجر المجتمع إلى الانهيار الأخلاقي والديني.

ثالثًا: أهمية الصدع بالحق

الطائفة التي وعظت ونصحت تمثّل القدوة الصالحة، فهي لم تستسلم لضغط الواقع، بل قامت بما عليها من واجب النصيحة، فاستحقت النجاة والرضا الإلهي. وقد حازوا الذكر الطيب في القرآن، وتميّزوا عن غيرهم من المتخاذلين.

رابعًا: المعصية الجماعية أشد وقعًا من الفردية

حين تتكرر المعصية بين جماعة من الناس ويتواطأون عليها، يكون أثرها أكبر، وعقوبتها أشد. لذلك فإن المجتمعات مسؤولة عن حماية نفسها من الانزلاق في المخالفات الشرعية الجماعية، وعليها أن تضع ضوابط ووسائل تمنع التحايل والانحراف.

القصة في السنة النبوية

أشارت الأحاديث النبوية إلى قصة أصحاب السبت في مواضع متعددة. فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موضع أن بعض الأمم السابقة عُوقبت بالمسخ بسبب ذنوبهم. وأوصى أمته بعدم اتباع سننهم في التحايل والمخالفة، فقال:

“لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه” (رواه البخاري ومسلم)

فهذا التحذير النبوي يؤكد أن الأمم اللاحقة ليست في مأمن من العقوبة إن سارت على خطى الأمم السابقة في المخالفة والتحايل على الشرع.

القصة في ضوء مقاصد الشريعة

قصة أصحاب السبت لا تقتصر على سرد أحداث تاريخية فقط، بل ترتبط بمقاصد عظيمة من مقاصد الشريعة، ومنها:

حفظ الدين

التحايل على الشريعة يُهدد بقاء الدين الحقيقي في النفوس، ويدفع نحو تشويهه وإفراغه من جوهره. وقد كانت الحيلة هنا وسيلة لخرق العهد الإلهي وتجاوز الحدّ المشروع.

حفظ النظام الاجتماعي

السكوت عن المنكر يُحدث فوضى في المجتمع، ويؤدي إلى تفكك في منظومة القيم. لذلك تُبرز القصة ضرورة قيام كل فئة بدورها في حفظ المجتمع من الانهيار القيمي.

التحايل المعاصر وتمثلات القصة في واقعنا

التحايل لم يندثر، بل لا يزال قائمًا بأشكال متنوعة في المجتمعات الحديثة، مثل:

تؤكد القصة أن الله لا يُخدع، وأنه سبحانه يطّلع على النوايا كما يرى الأفعال، فكل محاولة لتحوير الشريعة أو تجاوز حدودها خيانة للعهد، وعاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة.

في الختام

إن قصة أصحاب السبت ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي درس دائم الحضور في الوعي الإسلامي، تُجسد مفهوم طاعة الله والابتعاد عن الحيل، وتُظهر كيف أن مخالفة أمر الله، حتى بالحيلة، تؤدي إلى غضب الله وعقوبته. وهي دعوة لكل فرد ومجتمع للثبات على منهج الله، واحترام حدوده، والقيام بواجب النهي عن المنكر، حمايةً للروح الفردية والجماعية من الانزلاق في مهاوي التحايل والتمرد على الشرع.

المراجع:

1. تفسير ابن كثير، دار طيبة.

2. الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي.