عبد الغني النابلسي: العالِم الشامي الموسوعي ومكانته في الفكر الصوفي والأدبي

تمهيد

يُعدّ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي (1641–1731م)، أحد أبرز أعلام التصوف والعلم والأدب في بلاد الشام خلال العهد العثماني. جمع بين العلوم الدينية والدنيوية، فكان فقيهًا، ومفسرًا، ومحدثًا، وشاعرًا، وفيلسوفًا صوفيًا، ورحالة واسع الاطلاع. عُرف بحبّه للعلم وانفتاحه الفكري وتسامحه الديني، وكان من القلائل الذين دمجوا بين الشريعة والحقيقة، مما جعل مؤلفاته مرجعًا للباحثين والدارسين في شتى الحقول.

النشأة والخلفية العلمية

وُلِد عبد الغني النابلسي في مدينة دمشق سنة 1050هـ/1641م، في بيت علم ودين، وينتمي إلى أسرة ذات أصول أندلسية، نزحت إلى الشام بعد سقوط الأندلس. نشأ في كنف والده الشيخ إسماعيل النابلسي الذي كان من كبار علماء الفقه الحنفي في عصره، فتلقّى تعليمه الأولي في منزل والده، فحفظ القرآن الكريم منذ صغره، وبدأ دراسة العلوم الشرعية واللغوية على كبار علماء دمشق.

بدأ النابلسي الدراسة النظامية منذ نعومة أظفاره، فأتقن النحو، والبلاغة، والفقه، والأصول، والحديث، والتفسير، وعلم الكلام، والمنطق، والفلسفة، وعلم الأديان، كما نهل من علوم التصوف من مشايخ عدة حتى أصبح من كبار شيوخه في بلاد الشام.

المسيرة العلمية

توسّعت دائرة علم النابلسي مع الزمن، إذ رحل إلى العديد من البلدان الإسلامية طلبًا للعلم، مثل القدس، وطرابلس، وبيروت، وصيدا، وحلب، والقاهرة، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، والأناضول. وفي كل هذه المحطات تلقّى العلم عن كبار مشايخها وعلمائها، كما ألقى الدروس، وألقى الشعر، وألّف الكتب، ما جعله شخصية علمية بارزة في محيطه.

درّس النابلسي في المدارس العثمانية بدمشق، وكان له مجلس علمي في الجامع الأموي الكبير، وكان يُلقي فيه دروسًا في التفسير والحديث والتصوف واللغة. وتتلمذ على يديه عشرات العلماء الذين برزوا بعده في مختلف العلوم.

الإنتاج العلمي والأدبي

يُعدّ عبد الغني النابلسي من أكثر العلماء إنتاجًا في عصره، إذ تُنسب إليه عشرات المؤلفات، ما بين مطبوع ومخطوط. كتب في علوم الشريعة كالتفسير والفقه والحديث، كما كتب في الأدب والشعر والتصوف والفلسفة.

ومن أبرز مؤلفاته:

تتميز كتاباته بجمال الأسلوب ورشاقة اللغة، وعمق المضمون، حيث يجمع بين فصاحة البيان، ووضوح المعنى، وغزارة المعرفة.

التصوف عند النابلسي: من الشريعة إلى الحقيقة

لم يكن التصوف عند عبد الغني النابلسي مجرد طقوس وممارسات، بل كان مدرسة فكرية وعلمية قائمة على تحقيق التزكية الروحية للإنسان، والوصول إلى مقامات الإحسان، والتجرد من الأهواء، والارتقاء إلى مستوى الفهم الروحي العميق للكون والحياة.

تبنّى النابلسي موقفًا صوفيًا وسطيًا، إذ جمع بين الشريعة والحقيقة، فنبذ الغلو والانحراف، ووقف ضد الجمود الديني والانغلاق العقلي. وأكد في مؤلفاته على أن الطريق إلى الله يمر عبر العلم، والعمل، والتزكية، والمحبة، والتسامح.

أثار مفهومه لـ “وحدة الوجود” نقاشًا كبيرًا، حيث فسّرها على أنها تجلٍ لوجود الله في مظاهر الخلق، دون أن يعني ذلك الحلول أو الاتحاد، مما يجعله قريبًا من المدرسة الصوفية العقلانية التي حاولت أن تُفسر التجربة الروحية من خلال المفاهيم الفلسفية والقرآنية.

الرحلات وأدب الأسفار

كان عبد الغني النابلسي رحّالة بارعًا، جال في بلاد الشام والحجاز ومصر، وسجّل انطباعاته بدقة مدهشة في كتابه “الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز”، الذي يُعد من أمهات كتب الرحلات في التراث العربي.

في هذا الكتاب، وصف المدن، والعادات، والعلماء، والطبيعة، والمساجد، والأسواق، والأساليب الحياتية للناس. وامتاز أسلوبه في الرحلات بالجمع بين الرصد الميداني، والتحليل الاجتماعي، والذوق الأدبي.

تُظهر هذه الرحلات انفتاح النابلسي على الآخر، وتسامحه الكبير مع مختلف الطوائف والمذاهب، إذ نقل مشاهداته بتجرد وموضوعية، مع نَفَسٍ إنسانيّ عميق.

الشعر والعرفان

يُعد النابلسي من كبار الشعراء الصوفيين في عصره، وله ديوان شعري واسع، تميز فيه بالتجربة العرفانية العميقة، واستخدم رموزًا صوفية متعددة كالعشق، والنور، والحجاب، والكأس، والغيب.

وقد جاءت أشعاره متأثرة بالمدرسة الصوفية الكلاسيكية، لكنه أضفى عليها طابعًا فلسفيًا ومعرفيًا جديدًا. كما كتب الشعر بالعربية والفارسية، مما يدل على سعة اطلاعه الثقافي.

كان الشعر عنده وسيلة للتعبير عن الحب الإلهي، والاتحاد الروحي، والتحرر من الماديات، والتوحد مع الجمال المطلق. وهو من أوائل من تناول مفاهيم فلسفية معقدة بلغة شعرية سلسة، استطاع بها أن يُقرّب العرفان الصوفي إلى عامة القرّاء.

فكره الفقهي والاجتماعي

رغم أن النابلسي كان صوفيًّا، فإنه لم يهمل الفقه، بل ألّف في الفقه الحنفي ودرّسه، وأصدر فتاوى في قضايا متعددة. وقد تميز فكره الفقهي بالمرونة والانفتاح، ورفضه للتشدد والجمود.

دعا إلى الاجتهاد، ونبذ التقليد الأعمى، وانتقد بعض ممارسات رجال الدين التي تفتقر إلى البصيرة والتوازن. وكان له موقف واضح من قضايا المرأة، والتعليم، والتعامل مع غير المسلمين، إذ كان من الداعين إلى العدالة والمساواة والرحمة.

وقد عُرف بنقده اللاذع للمتعصبين، ودفاعه عن الحرية الفكرية والدينية، مما جعله شخصية إصلاحية متقدمة على عصرها.

وفاته وإرثه

توفي الشيخ عبد الغني النابلسي في دمشق سنة 1143هـ/1731م، ودُفن في الزاوية النابلسية في حيّ الصالحية، حيث لا يزال قبره مزارًا للعارفين ومحبي العلم والتصوف.

خلّف وراءه إرثًا علميًا وأدبيًا غزيرًا، بقي مرجعًا للباحثين إلى يومنا هذا، ولا تزال كتبه تُدرّس وتُحلل وتُطبع في أنحاء العالم الإسلامي.

وقد ساهمت طريقته المتزنة في الجمع بين العقل والروح، والشريعة والحقيقة، في جعل النابلسي واحدًا من أبرز رموز التصوف العلمي المتنور، الذي تجاوز الحواجز المذهبية والطائفية والثقافية.

أثره في الفكر العربي والإسلامي

امتد تأثير عبد الغني النابلسي إلى ما بعد زمانه، ووجدت أفكاره صدىً واسعًا في الأدب الصوفي والمناهج التعليمية، كما تم الاستشهاد بمؤلفاته في المحافل الفقهية والفكرية.

أثّرت كتاباته في عدد من المفكرين في القرون التالية، ممن حاولوا إعادة إحياء روح التصوف العقلاني والتسامحي. كما استشهد به عدد من كبار المستشرقين الذين تناولوا موضوعات التصوف في الإسلام.

أسهم أيضًا في إثراء الثقافة العربية من خلال المزج بين التجربة الدينية والبعد الجمالي والمعرفي، ما يجعله رمزًا للوسطية الإسلامية المستنيرة.

الخاتمة

يمثل عبد الغني النابلسي علامة بارزة في التاريخ العلمي والفكري للمنطقة العربية خلال العصر العثماني. فقد جمع في شخصيته بين المتصوف والعالم والشاعر والمفكر، وترك آثارًا لا تُنسى في ميادين شتى. إن إرثه الغني يدعونا إلى إعادة قراءة تجربته في ضوء التحديات الفكرية والدينية الراهنة، لفهم العمق الحقيقي للثقافة الإسلامية في بعدها الروحي والإنساني والعقلي.

المصادر

1. النابلسي، عبد الغني. الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز. دار صادر، بيروت.

2. عبد الرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. دار العلم للملايين، بيروت، 1992.