متديّنون يظلمون زوجاتهم: التديّن الشكلي وإشكالية الازدواجية الأخلاقية

في المجتمعات العربية والإسلامية، يُفترض أن يكون التديّن حائط صد يحمي الأفراد من الظلم، ويهذب السلوك، ويؤسس لعلاقات إنسانية قائمة على الرحمة والعدل والمودة، خصوصًا في مؤسسة الزواج التي شُرّعت لتكون سكنًا وطمأنينة بين الزوجين. ومع ذلك، تتجلى في واقع كثير من الأسر مفارقة صارخة بين الخطاب الديني الذي يرفعه بعض الرجال وسلوكهم العملي الذي يجانب تلك المبادئ. إننا أمام ظاهرة تتكرّر بشكل مقلق: رجال يظهرون التدين في المظهر والقول، لكنهم يمارسون ظلمًا بيّنًا في حق زوجاتهم، ما يستدعي دراسة هذه الإشكالية من جذورها الاجتماعية والدينية والنفسية.

التديّن الشكلي مقابل التديّن الجوهري

التديّن لا يُقاس بالمظاهر الشكلية مثل طول اللحية، أو المواظبة على حضور المساجد، أو استخدام المفردات الدينية في الحديث اليومي. التديّن الحقيقي انعكاس داخلي يتجلى في السلوك والتعامل، وخاصة في المعاملات الأسرية. لكن ما يحدث في بعض البيوت أن هناك انفصامًا بين الشكل والمضمون. فتجد الرجل يرفع شعار التديّن ويدّعي الورع، لكنه يُقصِّر في أبسط حقوق زوجته، ويتعامل معها من منطلق التسلّط الذكوري، لا الرحمة والشراكة.

أشكال الظلم الذي تتعرّض له الزوجات على يد رجال متدينين شكليًا

يأخذ الظلم الذي تتعرض له الزوجات أبعادًا متعددة، تختلف في شدّتها وآثارها، ولكنها تتقاطع في كونها ممارسات تتنافى مع تعاليم الدين الإسلامي التي كرّمت المرأة وأوصت بها خيرًا:

1. الظلم النفسي والعاطفي

تُعاني كثير من الزوجات من التجاهل العاطفي، والحرمان من الكلمة الطيبة، والانكفاء العاطفي المتعمّد، رغم أن القرآن الكريم أشار بوضوح إلى المودة والرحمة كأساس للعلاقة الزوجية: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً” (الروم: 21). غير أن بعض الأزواج، بدعوى الرجولة أو الرهبة من إظهار المشاعر، يعاملون الزوجة وكأنها خادمة أو كائن بلا روح، فلا يسمع لها، ولا يشاركها همومها، ولا يعبّر عن الامتنان أو التقدير.

2. التحكّم والسيطرة بإسم القوامة

القوامة في الإسلام مسؤولية تكليف لا تشريف، لكن بعض الرجال المتدينين يسيئون فهمها ويستخدمونها كأداة للهيمنة والسيطرة المطلقة. فتُمنع الزوجة من الدراسة أو العمل أو زيارة أهلها أو حتى التعبير عن رأيها، بزعم “طاعة الزوج” و”القرار في البيت”، دون مراعاة للتوازن الذي يفرضه الدين بين الحقوق والواجبات. وقد يتحول المنزل إلى فضاء مغلق تحكمه الأوامر والنواهي المطلقة، لا مكان فيه للحوار أو المساواة أو الشراكة.

3. الإهانة اللفظية والاحتقار

في حالات كثيرة، تُعامل الزوجة بإزدراء وتحقير دائم، من خلال استخدام الألفاظ الجارحة، والتذكير المستمر بنواقصها أو بأخطاء ماضية، وكأن الزوج يتخذ من الدين ذريعة لتكريس التفوّق الذكوري، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ووصى بالنساء خيرًا. قال عليه الصلاة والسلام: “خياركم خياركم لأهله” (رواه الترمذي). ورغم ذلك، نجد أن بعض الرجال لا يتورّعون عن تعنيف الزوجة بالكلام الجارح، وربما أمام أبنائها، ما يترك أثرًا نفسيًا طويل المدى.

4. العنف الجسدي

بعض الرجال يبررون استخدام العنف الجسدي ضد زوجاتهم بتفسيرات مغلوطة لنصوص دينية. يُبرّر الضرب بآيات من سورة النساء دون العودة إلى السياق الكامل للآية، ولا إلى تفسيرها الصحيح الذي يشترط مراحل متدرجة، تبدأ بالموعظة وتنتهي بالضرب غير المبرّح كخيار أخير استثنائي، ثم تلغى حتى هذه المرحلة إذا وُجد أدنى احتمال بأن الضرب سيزيد الطين بلّة. ومع ذلك، يتحول “الضرب” عند بعض المتدينين إلى وسيلة تربوية قاسية ودورية لإخضاع المرأة، متناسين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضرب امرأة قط.

5. الحرمان المالي والتقصير في النفقة

في كثير من الحالات، تمتنع بعض الأزواج عن الإنفاق بشكل كافٍ على زوجاتهم وأولادهم، رغم قدرتهم المادية، ويبررون ذلك بـ”الزهد” أو “التقشّف الديني”، في حين يصرفون ببذخ على أنفسهم أو هواياتهم أو حتى صدقاتهم العلنية. في المقابل، تجد الزوجة محرومة من حقوقها في الكسوة، أو الطعام اللائق، أو العناية الصحية. إن النفقة واجب شرعي، وهي من أوضح صور القوامة التي أمر بها الله تعالى، لا يمكن اختزالها أو التحايل عليها.

الجذور النفسية والاجتماعية لهذه الازدواجية

الظاهرة لا تنبع فقط من الجهل الديني، بل تتغذى من عدة عوامل نفسية واجتماعية مترابطة:

المفارقة بين قدوة النبي وسلوك المتديّنين الشكليين

حين ننظر إلى السيرة النبوية نجد نموذجًا مثاليًا للزوج المتدين المتوازن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشارك زوجاته في شؤون البيت، ويستمع إليهن، ويعامل كل واحدة منهن بما يلائم طباعها، ولم يُسجَّل عنه أنه ظلم أو أهمل إحداهن. في المقابل، هناك رجال في عصرنا يدّعون الاقتداء بالنبي، لكنهم في سلوكهم اليومي يقفون على النقيض تمامًا.

إن أعظم مظاهر التديّن الحق هو حسن العشرة، واحترام الشريك، والعدل في المعاملة، وليس التشدد في القشور أو كثرة المحاضرات الدينية التي لا تنعكس على الممارسة العملية.

أثر هذا الظلم على الأسرة والمجتمع

ظلم المرأة داخل إطار الزواج لا يتوقف أثره عند حدود البيت، بل ينعكس على بنية المجتمع برمّته. فالمرأة المقهورة تربي أبناء مهزوزين نفسيًا، والبنات اللاتي يشهدن الظلم في بيوتهن يكبرن وهن يحملن مشاعر الخوف، أو الرفض للزواج، أو التمرد الاجتماعي. أما الأبناء الذكور فيتعلمون النموذج نفسه، ويعيدون إنتاج السلوك ذاته مع زوجاتهم مستقبلًا. وهكذا يتكرّر نمط القهر تحت ستار ديني، دون أن يُنظر إليه كجريمة أخلاقية واجتماعية وإنسانية.

مسؤولية العلماء والدعاة

يقع على عاتق العلماء والدعاة دور كبير في تصحيح هذه المفاهيم المغلوطة، وتوضيح أن التديّن لا يبرر الظلم، بل هو مناقض له تمامًا. لا بد من إعادة الخطاب الديني إلى مقاصده الكبرى، والتركيز على خلق الرحمة، واحترام كرامة المرأة، والتحذير من تسلّط بعض الرجال باسم الدين. كذلك من الضروري إشراك الرجال في برامج إرشاد أسري وديني تعيد بناء وعيهم بعلاقاتهم الأسرية، وتُصحّح مفاهيمهم الخاطئة.

الخاتمة

إن التديّن الحقيقي لا يكون مظهرًا يُتاجر به الإنسان ولا وسيلة للسيطرة على الآخر، بل هو التزام أخلاقي وإنساني يتجلى أول ما يتجلى في أقرب العلاقات الإنسانية، وأهمها: العلاقة الزوجية. وإن الرجل الذي يظلم زوجته مهما كانت مظاهر تديّنه، لا يمكن أن يُعد متدينًا بحق، بل هو خادع لنفسه قبل أن يخدع مجتمعه. فليس كل من أطال لحيته أو لبس القميص الأبيض متدينًا، بل المتدين الحق من خشع قلبه، وعدل في بيته، ورحم زوجته، وارتقى بأخلاقه كما ارتقى برسالته الإيمانية.

المراجع:

1. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية.

2. الغزالي، إحياء علوم الدين، دار المعرفة.