سبب تسمية ذو القرنين

سبب تسمية ذي القرنين بهذا الاسم

من الشخصيات القرآنية التي أثارت اهتمام المفسرين والمؤرخين شخصية “ذو القرنين”، تلك الشخصية التي وردت في سورة الكهف، واحتلت مكانة بارزة في الذاكرة التاريخية والروحية للمسلمين. وقد أشار القرآن إلى ذي القرنين كملكٍ صالحٍ آتاه الله من كل شيء سببًا، ومكّنه في الأرض، وسار في أرجائها شرقًا وغربًا، حتى بلغ مطلع الشمس ومغربها، كما أنه اشتهر ببناء السد العظيم الذي حجز يأجوج ومأجوج خلفه.

ومع عظمة هذه الشخصية، بقيت مسألة سبب تسميته بـ”ذي القرنين” محل جدل واسع، وتباينت فيها أقوال المفسرين والمؤرخين، وارتبطت باجتهادات لغوية، ورؤى تأويلية، ومصادر تاريخية متعددة. في هذا المقال المطول، سنعرض الخلفيات المختلفة لهذه التسمية، ونحلل الآراء المتنوعة، مع ربطها بسياق الشخصية في القرآن الكريم وكتب التاريخ الإسلامي والمصادر الأجنبية.

أولاً: ذكر ذي القرنين في القرآن الكريم

ورد ذكر ذو القرنين في سورة الكهف ابتداءً من الآية 83 حتى الآية 98، حيث قال تعالى:

“وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا”

(سورة الكهف، الآية 83)

وفي هذه الآيات، يصوَّر ذو القرنين كملك قوي، صالح، وعادل، يسير في الأرض فاتحًا، بانيًا، ومانعًا للفساد، حتى بنى السد العظيم لمنع يأجوج ومأجوج. إلا أن القرآن لم يذكر تفاصيل دقيقة عن نسبه أو أصله، ولم يفسر سبب تسميته بهذا الاسم، مما فتح المجال أمام التأويلات والاجتهادات.

ثانيًا: التفسيرات اللغوية والرمزية لاسم “ذو القرنين”

1. القرنان كعلامة للسلطة والقوة

ذهب عدد من المفسرين إلى أن لفظ “ذو القرنين” إشارة رمزية إلى القوة والهيمنة، فالقرن في اللغة يدل على القوة، وقد يكون أيضًا رمزًا للسيادة والسيطرة. ووفق هذا التفسير، فإن “ذو القرنين” تعني “صاحب القوتين”، أو “صاحب السيادتين”، ويُحتمل أنه كان له ملك في مشرق الأرض ومغربها، ولذلك لقب بذو القرنين، أي صاحب النطاق الواسع من السلطة.

2. القرنان بمعنى الزمنين

قال بعض المفسرين إن المقصود بالقرنين هما “قرنان من الزمن”، أي أنه عاش قرنين، أو ملك في قرنين، أو على رأس قرنين من العصور. وهذا التفسير رمزي ويدل على طول مدة حكمه أو نفوذه التاريخي المتعدد.

3. القرنان كتشبيه بالرأس ذي القرنين

من الأوصاف التي طرحت، أن ذي القرنين ربما كان يلبس خوذة أو تاجًا له قرنان، كرمز ملكي أو عسكري، وكان هذا أمرًا مألوفًا في بعض الحضارات القديمة، خصوصًا في الفارسية والهندية. واستُدل على ذلك بما كان يُعرف عن بعض الملوك مثل الإسكندر المقدوني، الذي كانت تصنع له التماثيل بقرنين على رأسه.

4. القرنان كدلالة على النسب أو الاسم الحقيقي

ذهب بعض العلماء إلى أن “ذو القرنين” ليس اسم علم، بل هو لقب، كما هو الحال في أسماء مثل “ذو النورين” لعثمان بن عفان، أو “ذو الجناحين” لجعفر بن أبي طالب. وهذا اللقب قد يرتبط بحدث معين أو سمة بارزة من سماته، مثل خصلتي شعر يشبهان القرنين، أو ضفيرتين على جانبي الرأس.

ثالثًا: الآراء التاريخية في شخصية ذي القرنين

الإسكندر الأكبر (الإسكندر المقدوني)

من أشهر الآراء التي تبناها عدد من المفسرين والمؤرخين هو القول بأن “ذو القرنين” هو الإسكندر الأكبر بن فيليب المقدوني، الذي غزا بلادًا واسعة من أوروبا وآسيا وأفريقيا، ووصل إلى الهند ومصر، وتوفي في بابل في سن الشباب.

وقد استند هذا الرأي إلى عدة نقاط:

• أن الإسكندر المقدوني كان يُصور دائمًا في النقوش والتماثيل وهو يلبس خوذة ذات قرنين.

• أن فتوحاته الواسعة تتشابه مع ما ذكره القرآن من وصوله لمغرب الشمس ومطلعها.

• أن كثيرًا من الروايات التاريخية نقلت أخبار بناء سدود ومعارك في أقاصي الأرض مرتبطة بشخصية الإسكندر.

لكن هذا الرأي يواجه اعتراضًا قويًا من جانب كثير من العلماء المسلمين، نظرًا لأن الإسكندر المقدوني كان مشركًا يعبد الأصنام، في حين أن القرآن يصف ذا القرنين بأنه مؤمن بالله، عادل، يتبع الهدى، ويتخذ قراراته بمشورة ربانية.

كورش الكبير (قورش الفارسي)

الرأي الذي تبناه عدد من المفسرين، مثل العلامة أبو الكلام آزاد من الهند، أن ذا القرنين هو كورش الكبير (Cyrus the Great)، مؤسس الدولة الفارسية الأخمينية.

ويستند هذا الرأي إلى أدلة تاريخية وأثرية:

• كورش كان ملكًا عادلًا، عرف عنه التسامح الديني وإطلاق الأسرى، ومنهم اليهود بعد سبي بابل.

• ورد اسمه في التوراة والكتب اليهودية باحترام، وهو ما يتسق مع صفات ذي القرنين القرآنية.

• في بعض النقوش الفارسية، يظهر كورش مع تاج ذي قرنين، مما يعزز الرؤية بأن اسمه ارتبط بـ”القرنين”.

كما أن التشابه في التوسع الجغرافي بين كورش وذي القرنين يجعل هذا الرأي أكثر اتساقًا مع الرؤية الإسلامية التي ترفض نسب الإيمان والتوحيد إلى شخص وثني مثل الإسكندر.

آراء أخرى

• بعض المؤرخين نسبوا ذا القرنين إلى ملوك اليمن من “تبّع”، وقالوا إنه كان من ملوك حمير الذين اشتهروا بالقوة والسفر الطويل.

• رأي أقل شيوعًا يقول إن ذا القرنين هو النبي إدريس عليه السلام، لما له من صلة بالعلم والمعرفة والسفر، وهو رأي ضعيف عند جمهور المفسرين.

• بعض الباحثين الحديثين قالوا إن شخصية ذي القرنين قد تكون تمثيلًا مركبًا لشخصيات تاريخية عدة، مزجت في المخيال الثقافي حتى اتخذت هذه الصورة الرمزية التي خلدها القرآن.

ربط الاسم بالسياق القرآني

من المهم جدًا أن نفهم أن تسمية “ذي القرنين” لا تأتي بمعزل عن سياق سيرته كما وردت في القرآن. فالسياق يرينا ملكًا مؤمنًا، يسير في الأرض ليقيم العدل، يرفض الأجر على أعماله لأنه يعمل لله، ويملك من الحكمة والبصيرة ما يجعله يضبط العلاقات بين الشعوب، ويقيم السد العظيم بطريقة عملية تجمع بين الإيمان والعلم والتقنية.

تتطابق هذه السمات مع شخصية فريدة، ذات بعد قيادي وحضاري، ويبدو أن القرآن أراد أن يترك اسمه مفتوحًا حتى يكون النموذج أعلى من اسم محدد، وحتى يركز المسلمون على القيم التي يمثلها لا الشخص بذاته.

الجدول التالي يوضح أبرز الآراء حول تفسير اسم “ذو القرنين”:

خلاصة

تعددت الأقوال حول سبب تسمية “ذي القرنين” بهذا الاسم، بين تأويلات لغوية، وتفسيرات رمزية، ونظريات تاريخية. لكن أقرب الآراء المقبولة التي تلقى توافقًا واسعًا بين العلماء المعاصرين والباحثين هي تلك التي ترى أن الاسم يرتبط بكورش الكبير، لما له من صفات تتقاطع مع ما ذكره القرآن الكريم. بينما التفسيرات الرمزية المتعلقة بالقوة والسيادة تضيف بعدًا تأويليًا لفهم البنية اللغوية للاسم.

وتبقى شخصية ذو القرنين من أعظم النماذج القرآنية التي جمعت بين الإيمان، والحكمة، والعدل، والتقنية، والقدرة على التغيير الإيجابي في حياة الشعوب، وهو ما يجعل دراستها مفتوحة دومًا للبحث والتأمل.

المراجع:

1. الطبري، تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن

2. أبو الكلام آزاد، تفسير ترجمان القرآن