عائد إلى حيفا: مأساة العودة

رواية “عائد إلى حيفا”

تُعدّ رواية “عائد إلى حيفا” للأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني من أبرز الأعمال الأدبية التي تناولت قضية اللجوء الفلسطيني والشتات الذي عاشه الشعب الفلسطيني بعد النكبة. تتسم الرواية بالعمق الإنساني والسياسي، فهي لا تقتصر على عرض مأساة فردية بل تتناول قضايا قومية واجتماعية تأثرت بها أجيال من الفلسطينيين. من خلال شخصياتها البسيطة والعميقة، تتجسد مأساة التهجير والدمار التي تعرض لها الشعب الفلسطيني نتيجة للعدوان الصهيوني على فلسطين في عام 1948.

تدور أحداث الرواية حول قصة عائلة فلسطينية كانت قد هُجرت قسراً من مدينة حيفا في عام 1948، حيث يقرر أحد أفرادها، سعيد، العودة إلى المدينة بعد عشرين سنة من اللجوء في لبنان، ليتفاجأ بتغيرات جذرية في المكان، ولتتداخل في روايته العديد من القضايا الإنسانية والسياسية التي تشكل واقع الشعب الفلسطيني المعاصر.

السياق الزمني والمكاني:

تبدأ رواية “عائد إلى حيفا” في عام 1967، أي بعد نكسة حزيران، حيث يعيش الفلسطينيون في الشتات بعد أن فقدوا أراضيهم ومدنهم. المكان الأساسي الذي تجري فيه الأحداث هو مدينة حيفا الفلسطينية التي كانت إحدى أهم مدن فلسطين قبل نكبة 1948، والتي احتلتها القوات الصهيونية، ليجد الفلسطينيون أنفسهم في مخيمات اللجوء في لبنان وسوريا، مجبرين على العيش بعيدًا عن أرضهم.

الشخصيات الرئيسية:

• سعيد: بطل الرواية الذي كان قد هجّر مع زوجته وابنه بعد سقوط حيفا. يعود إلى المدينة بعد مرور عشرين سنة من اللجوء ليكتشف أن الأشياء التي عرفها قد تغيّرت بشكل جذري. يمثل سعيد الشخصية الفلسطينية الممزقة بين العودة إلى الوطن والحقيقة المؤلمة التي يكتشفها.

• سلمى: زوجة سعيد التي شاركته رحلة اللجوء وهي أيضًا رمز للمرأة الفلسطينية التي عانت من فقدان وطنها وذكرياتها عن حيفا. لكن سلمى تشعر بالقلق والتردد حيال العودة إلى حيفا بعد كل هذه السنوات.

• الشاب الفلسطيني الذي تبنته العائلة اليهودية: تمثل هذه الشخصية جزءًا من مأساة النزوح الفلسطيني، حيث يجد سعيد أن الطفل الذي كان قد تركه وراءه في حيفا قد أصبح شابًا يهوديًا، وتبنته عائلة يهودية، ليصبح رمزًا لتحوّل الحياة وتبدّلها بفعل الاحتلال.

الأحداث والتطورات:

يقرر سعيد العودة إلى حيفا في ظل الظروف السياسية الجديدة بعد النكسة، بعد أن فرضت إسرائيل أمر الواقع بإقامة دولة يهودية على أراضي فلسطين. يعود مع زوجته سلمى إلى المدينة التي كانت موطنهم الأصلي، ولكنهم يصطدمون بحقائق جديدة جعلتهم يكتشفون أن الأرض التي كانت لهم قد تم طمس هويتها وتغيير معالمها.

عند وصول سعيد إلى حيفا، يكتشف أن بيته الذي كان يملكه قد أصبح تحت السيطرة الإسرائيلية، وأنه قد تم تحويله إلى منزل عائلة يهودية. هذه الصدمة تفتح أمامه جراحًا قديمة وألمًا جديدًا، فها هو يرى المكان الذي كان يحمل فيه ذكرياته وحياته الخاصة وقد أُخذ منه بشكل كامل. كما يكتشف سعيد أن الطفل الذي تركه خلفه في الحرب قد تم تبنيه من قبل عائلة يهودية، ليعيش مع تلك العائلة كطفل يهودي بعيدًا عن جذوره الفلسطينية. هذا الاكتشاف يضع سعيد في موقف لا يحسد عليه، فهو لا يعرف كيف يتعامل مع هذا الواقع الذي أصبح يراه غريبًا، رغم أنه كان جزءًا منه قبل الهجرة.

تتوالى في الرواية مشاعر الحزن والفقدان. تتكشف الأبعاد النفسية للشخصيات بعد كل صدمة يواجهونها. يعود سعيد للمدينة ليبحث عن ابنه الذي كان قد تركه وراءه، ليجد أن هذا الابن قد أصبح جزءًا من المجتمع الإسرائيلي وأصبح يهوديًا. تتداخل المشاعر الإنسانية مع الصراع السياسي، حيث يكتشف سعيد أن الاحتلال قد غير كل شيء، بدءًا من هويته الفلسطينية، وصولًا إلى تدمير أسرته وتبديل حياة ابنه.

الصراع بين الذاكرة والواقع:

تعتبر الرواية دراسة رائعة للصراع بين الذاكرة الفلسطينية والواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال. تبرز الرواية الصراع الداخلي الذي يعاني منه الفلسطينيون في الشتات بين الحنين إلى الوطن وبين الرفض الكامل للواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال. العودة إلى حيفا، التي كانت يومًا ما مدينة فلسطينية، تصبح رحلة اكتشاف الصدمة والمأساة.

يشير غسان كنفاني من خلال هذه الرواية إلى أن العودة إلى فلسطين هي أكثر من مجرد زيارة، بل هي إحياء لذكريات منتهكة ومحاولة لاسترجاع ما تم فقدانه. من خلال عودة سعيد إلى حيفا، يعكس كنفاني الألم والضياع الذي عاشه الفلسطينيون، بالإضافة إلى الألم الداخلي الناتج عن حقيقة أن فلسطين أصبحت اليوم مكانًا غريبًا لا يعكس هويتهم الثقافية والاجتماعية.

الرمزية في الرواية:

تتسم “عائد إلى حيفا” بالرمزية العميقة التي تميز أسلوب غسان كنفاني في الكتابة. فكل حدث وكل شخصية في الرواية تحمل رمزية معينة تمثل جزءًا من القضية الفلسطينية. على سبيل المثال، يعكس الطفل الذي تبنته العائلة اليهودية الضياع الثقافي والإنساني الذي عانى منه الفلسطينيون بعد النكبة، فالماضي الفلسطيني يتحول إلى ماضٍ غريب ومحاط بالأساطير.

من جانب آخر، إن العودة إلى حيفا تُعتبر بمثابة البحث عن الهوية، والعودة إلى الجذور التي تم طمسها بفعل الاحتلال. هذه العودة لا تمثل مجرد العودة الجغرافية بل محاولة للعودة النفسية والثقافية إلى فلسطين، التي فقدها الفلسطينيون في الشتات. تُمثل حيفا في الرواية وطنًا ضائعًا وصورة مؤلمة للواقع الفلسطيني.

الختام:

تعدّ “عائد إلى حيفا” روايةً تعكس واقعًا مريرًا للفلسطينيين الذين شهدوا نكبة 1948 وأثرها على حياتهم، فهي تسلط الضوء على قضية الشتات الفلسطيني، والنكبة، وتناقش كيف يعيش الفلسطينيون بين الذاكرة والواقع، بين الوطن المفقود والشتات الذي يواجهونه في الدول العربية والأجنبية. عودة سعيد إلى حيفا هي عودة رمزية للجميع، تجسد الآلام التي لا تنسى، كما تبرز التغيير الاجتماعي والسياسي في منطقة كان يطلق عليها يومًا “فلسطين”.