مشاركة ضعيفة للمرأة في صناعة قرارات الصناديق الخيرية: الأسباب، التأثيرات، وسبل المعالجة

تمثل الصناديق الخيرية إحدى الركائز الأساسية في بناء المجتمعات، خاصة في الدول التي تعاني من فجوات اجتماعية واقتصادية كبيرة. وتُعتبر هذه الصناديق مؤسسات غير ربحية تهدف إلى تمويل المشاريع التنموية والخيرية من خلال جمع التبرعات وتوزيعها بصورة عادلة وشفافة. لكن على الرغم من الدور المحوري الذي تلعبه المرأة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لا تزال مشاركتها في صناعة القرار داخل الصناديق الخيرية ضعيفة وغير متناسبة مع إسهاماتها الحقيقية في العمل الخيري والمجتمعي. هذه الظاهرة تثير تساؤلات حول الأسباب العميقة وراء هذا التهميش، وتأثيراته المباشرة وغير المباشرة على فاعلية العمل الخيري، كما تفتح المجال لنقاش واسع حول السبل الكفيلة بمعالجته وتصحيح المسار.

أولًا: السياق العام لمشاركة المرأة في العمل الخيري

تُعتبر المرأة عنصرًا فاعلًا في الحقل الخيري منذ عصور مبكرة، حيث اضطلعت بأدوار محورية في تقديم الدعم للفئات الضعيفة والمهمشة، سواء عبر جمع التبرعات، أو تنظيم الحملات الاجتماعية، أو توفير الرعاية المباشرة للمحتاجين. وقد أظهرت الدراسات الميدانية والاجتماعية أن النساء يمتلكن قدرات فائقة على ملاحظة الاحتياجات المجتمعية الدقيقة، وعلى خلق شبكات دعم فعالة داخل المجتمع. رغم ذلك، تُحصر مشاركة المرأة غالبًا في الأدوار التنفيذية أو الإدارية المحدودة، دون أن تمتد إلى مواقع صناعة القرار أو صياغة الاستراتيجيات والسياسات داخل الصناديق الخيرية.

ثانيًا: مظاهر ضعف مشاركة المرأة في صناعة القرار

ضعف مشاركة المرأة في صناعة قرارات الصناديق الخيرية يتجلى في عدة صور، أهمها:

• انخفاض نسبة النساء في مجالس الإدارة واللجان العليا لتلك الصناديق.

• تغييب أصوات النساء عند وضع الاستراتيجيات الكبرى، كآليات توزيع الأموال أو اختيار أولويات التمويل.

• اقتصار مشاركة المرأة في كثير من الأحيان على تنفيذ البرامج أو إدارة الفرق الميدانية دون إسهام مباشر في صياغة السياسات العامة.

• عدم وجود لوائح داخلية ملزمة تُشجع على تمثيل متوازن بين الجنسين في مواقع صنع القرار داخل هذه المؤسسات.

ثالثًا: الأسباب الهيكلية والثقافية لضعف مشاركة المرأة

يعود هذا التفاوت إلى مجموعة من الأسباب البنيوية والثقافية، منها ما يلي:

1. المعوقات الثقافية والاجتماعية

في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، لا تزال النظرة التقليدية لدور المرأة حاضرة بقوة، حيث يُنظر إلى النساء على أنهن مناسبات فقط للأدوار الخدمية أو التنظيمية، وليس للمواقع القيادية. هذا التصور ينتج عنه تردد في تعيين النساء في المناصب العليا داخل الصناديق الخيرية.

2. ضعف الوعي المؤسسي بمبدأ الشراكة النوعية

لا تعتمد العديد من الصناديق الخيرية معايير واضحة لضمان تمثيل عادل للمرأة في هيئاتها القيادية. بل إن بعض هذه المؤسسات لا ترى مشكلة في غياب المرأة عن دوائر اتخاذ القرار، باعتبار أن ذلك لا يؤثر – حسب زعمها – على كفاءة الأداء.

3. غياب السياسات العامة الداعمة لتمكين المرأة

تُظهر بعض الدول ضعفًا في صياغة قوانين وتشريعات تضمن تمثيلًا عادلاً للنساء في مؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك الصناديق الخيرية. كما أن غياب آليات رقابية تحفز المؤسسات على تمكين المرأة يكرّس من استمرار الوضع القائم.

4. التحديات الاقتصادية والتعليمية

في بعض السياقات، تعاني النساء من ضعف في التأهيل العلمي أو الاقتصادي الذي يؤهلهن للمشاركة في مواقع قيادية داخل المؤسسات الخيرية، خاصة في المناطق الريفية أو المهمشة.

رابعًا: الآثار المترتبة على ضعف مشاركة المرأة

يؤثر تغييب المرأة عن صناعة القرار في الصناديق الخيرية سلبًا على عدة مستويات، من أبرزها:

1. اختلال في تحديد أولويات الدعم

نظرًا لأن النساء يمتلكن حساسية اجتماعية متميزة وقدرة على تشخيص الحاجات من زوايا متعددة، فإن غياب أصواتهن يُفضي إلى فجوات في تحديد أولويات العمل الخيري، لا سيما فيما يتعلق بقضايا النساء والأطفال والمسنين.

2. ضعف الشفافية والمساءلة

أظهرت عدة دراسات أن مشاركة النساء في مواقع صنع القرار ترتبط بارتفاع مستويات الشفافية والانضباط المالي في المؤسسات غير الربحية، وبالتالي فإن تهميش النساء قد ينعكس سلبًا على مصداقية الصندوق واستدامته.

3. تراجع ثقة المجتمع في المؤسسة الخيرية

عندما لا يرى المجتمع تمثيلًا حقيقيًا للنساء في المؤسسات الخيرية، خصوصًا في المجتمعات التي تشكل فيها النساء النسبة الأكبر من المتطوعين والمتبرعين، فإن ذلك قد يؤدي إلى شعور بالاستبعاد وعدم العدالة، مما ينعكس على ثقة المجتمع بالمؤسسة.

خامسًا: نماذج عالمية لتجارب ناجحة في تمكين المرأة

توجد نماذج دولية بارزة نجحت في دمج النساء في صناعة القرار داخل المؤسسات الخيرية. على سبيل المثال، تعتمد “مؤسسة بيل وميليندا غيتس” الأمريكية نهجًا إدماجيًا في توزيع المهام الإدارية، وتمنح المرأة مساحة مؤثرة في صناعة القرار الخيري، مما ساعد المؤسسة في تعزيز فاعليتها في مجال الصحة والتعليم عالميًا.

وفي بعض الدول الإسكندنافية، تُلزم التشريعات الصناديق الخيرية والمؤسسات غير الربحية بتمثيل نسائي لا يقل عن 40% في مجالس الإدارة، ما أدى إلى تحولات ملموسة في نتائج المشاريع وتوجهاتها.

سادسًا: الآليات المقترحة لتعزيز مشاركة المرأة في الصناديق الخيرية

يمكن معالجة هذا التفاوت في المشاركة عبر مجموعة من الآليات العملية والواقعية، ومنها:

1. اعتماد سياسات داخلية للمساواة بين الجنسين

ينبغي للصناديق الخيرية اعتماد لوائح تنظيمية تنص صراحة على وجوب تمثيل المرأة في كافة الهيئات القيادية، بما في ذلك مجالس الإدارة، ولجان التمويل، واللجان الاستشارية.

2. بناء قدرات النساء

من خلال تنظيم برامج تدريبية لتأهيل النساء في مجالات الإدارة المالية، والقيادة المؤسسية، والتخطيط الاستراتيجي، تُصبح المرأة أكثر جاهزية لتولي أدوار قيادية في العمل الخيري.

3. تشجيع الشراكات مع مؤسسات نسوية

يمكن للصناديق الخيرية التعاون مع المنظمات النسائية لخلق قاعدة بيانات للكوادر النسائية المؤهلة، وتبادل الخبرات حول سبل تمكين المرأة في مواقع القيادة.

4. تعزيز الرقابة الحكومية والتمويل المشروط

ينبغي أن تدرج الجهات المانحة والمؤسسات الحكومية شروطًا تتعلق بتمكين المرأة في لوائح التقديم للتمويل الخيري، بحيث يُشترط وجود تمثيل نسائي في الهياكل الإدارية للصناديق كأحد معايير استحقاق التمويل.

سابعًا: دور الإعلام والمجتمع المدني في تعزيز هذا التوجه

يشكل الإعلام أداة فعالة في كشف فجوات التمثيل النوعي داخل المؤسسات الخيرية، كما يسهم في خلق رأي عام ضاغط يدعو إلى تصحيح الخلل. ويمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا تكامليًا عبر:

• إعداد تقارير دورية ترصد مشاركة المرأة في الصناديق الخيرية.

• إطلاق حملات توعوية تحفز على تمكين النساء في العمل غير الربحي.

• الضغط على المشرّعين لاعتماد قوانين ملزمة تحقق التوازن النوعي في مواقع صنع القرار.

جدول يوضح مقارنة بين مشاركة المرأة في الصناديق الخيرية في بعض الدول العربية والعالمية

ثامنًا: خاتمة تحليلية

يُعدّ ضعف مشاركة المرأة في صناعة قرارات الصناديق الخيرية خللًا بنيويًا وثقافيًا يعوق تحقيق العدالة النوعية ويحد من فاعلية العمل الخيري في معالجة التحديات المجتمعية. إن معالجة هذا الخلل لا تحتاج فقط إلى نوايا طيبة، بل تتطلب مراجعة جذرية لآليات الحوكمة في هذه المؤسسات، وصياغة سياسات شاملة تضمن المشاركة العادلة للنساء في مختلف مراحل اتخاذ القرار. كما يستوجب الأمر تكاتف جهود الحكومات، والقطاع الثالث، والمجتمع المدني لضمان بيئة مؤسسية عادلة ومستجيبة لتطلعات كل أفراد المجتمع، رجالًا ونساءً، في بناء مستقبل أكثر عدالة وإنصافًا واستدامة.

المراجع:

• UN Women. (2022). Gender Equality in Civil Society Organizations.

• Bill & Melinda Gates Foundation Reports. (2021). Annual Philanthropy Review.