كتاب “صورة قاتل: جاك السفاح–القضية مغلقة” للمؤلفة باتريشيا دانييلز كورنويل يمثل تحليلاً شاملاً لأحد أكثر الألغاز الجنائية شهرةً في التاريخ البريطاني. في الفترة بين أغسطس ونوفمبر من عام 1888، وقعت سلسلة من الجرائم الوحشية في منطقة وايت تشابل بلندن، حيث تم قتل ما لا يقل عن سبع نساء بطرق مروعة، مما أثار الذعر والخوف بين سكان الحي الشرقي لأشهر طويلة. تلك الجرائم، التي بقيت بدون حل لأكثر من مئة عام، أصبحت مرتبطة باسم “جاك السفاح”، الذي يُعتبر رمزاً للقاتل المتسلسل الغامض.
لطالما كانت هذه الجرائم موضع اهتمام لدى الباحثين والمؤرخين، وقد ظهرت العديد من النظريات حول هوية القاتل الحقيقي. تضمنت هذه النظريات اتهامات لأعضاء من العائلة الملكية، وحلاق، وطبيب، وحتى امرأة وفنان. لكن باتريشيا كورنويل، المعروفة بمهاراتها في مجال الطب الشرعي والتحقيق الجنائي، قررت تسخير تقنيات القرن الواحد والعشرين لمحاولة حل هذا اللغز الذي طال أمده.
في هذا الكتاب، تستخدم كورنويل خبرتها الواسعة في تطبيق الانضباط الصارم للتحقيقات الجنائية الحديثة على المواد المتاحة من تلك الفترة. وقد قدمت في الكتاب أدلة دامغة تشير إلى أن القاتل لم يكن سوى الفنان الشهير والتر سيكرت. عبر استخدام تقنيات لم تكن معروفة في العصر الفيكتوري، تدعي كورنويل أنها تمكنت من كشف سيكرت باعتباره مؤلف الرسائل الشهيرة التي أرسلها “جاك السفاح” إلى شرطة العاصمة.
جزء كبير من حجج كورنويل يستند إلى تحليلها المفصل لأعمال سيكرت الفنية. وتقول إن لوحاته تعكس بشكل متكرر التقطيع الوحشي لضحاياه، مما يوحي بأن الفن كان وسيلته للتعبير عن مشاعره المظلمة وأفعاله المروعة. كما أن فحصها لتشوهاته الخلقية والإجراءات الجراحية التي خضع لها في أعضائه التناسلية، وتأثيرها على نشأته، تقدم مثالًا دراسيًا حول كيفية تكوين شخصية قاتل نفسي.
القضية التي تقدمها كورنويل في هذا الكتاب ليست فقط مثيرة للجدل بسبب هوية المشتبه به الذي تقترحه، بل أيضًا بسبب النهج الذي اتبعته في التحقيق. فالتحليل الذي قامت به يستند إلى مجموعة من الأدوات العلمية المعاصرة، مثل تحليل الحمض النووي والتقنيات الحديثة في الطب الشرعي، مما يضع قضية “جاك السفاح” تحت مجهر جديد تمامًا.
إلا أن الادعاءات التي قدمتها كورنويل لاقت انتقادات واسعة من بعض المؤرخين والخبراء في قضية جاك السفاح. يشير بعضهم إلى أن الأدلة التي استندت إليها كورنويل قد تكون غير كافية لتحديد هوية القاتل بشكل قاطع، وأن نظريتها قد لا تكون أكثر من مجرد تخمين متقن. لكن بالرغم من هذه الانتقادات، يبقى الكتاب مساهمة مهمة في أدب الجرائم الحقيقية، ويمثل محاولة جريئة لإغلاق ملف إحدى أعقد القضايا الجنائية في التاريخ.
يتطرق الكتاب أيضًا إلى الحياة الشخصية لوالتر سيكرت وتأثيراتها المحتملة على سلوكه. ففي سرد كورنويل، يشكل هذا الجانب البيوغرافي جزءًا مهمًا من فهم دوافع وأفعال القاتل المحتمل. من خلال الربط بين الفن والحياة الشخصية لسيكرت، ترسم كورنويل صورة لشخصية معقدة ومضطربة، تمتلئ بالظلام والصراع الداخلي.
بالإضافة إلى ذلك، يعكس الكتاب اهتمام المؤلفة بتحدي النظريات السابقة حول هوية جاك السفاح، ويطرح أسئلة جديدة حول كيفية تأثير العوامل النفسية والجسدية على تكوين شخصيات القتلة المتسلسلين. عبر مزج التفاصيل التاريخية مع التحليل النفسي الحديث، تقدم كورنويل دراسة فريدة تسلط الضوء على التعقيدات التي تحيط بهذه القضية الغامضة.
في النهاية، “صورة قاتل: جاك السفاح–القضية مغلقة” ليس مجرد كتاب عن جريمة وقعت في الماضي البعيد، بل هو أيضًا استكشاف للتفاعل بين الفن والجريمة، وكيف يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تلقي ضوءًا جديدًا على ألغاز قديمة. الكتاب يمثل رحلة شيقة ومثيرة في عالم الجريمة والتحقيق، ويستحق القراءة لكل من يهتم بتاريخ الجرائم الغامضة والتحليل النفسي للشخصيات المعقدة.