صوت الحمار، النهيق، علم الأصوات الحيوانية، سلوكيات الحمار، التواصل الحيواني، النهيق ودلالاته، بيولوجيا النهيق

النهيق: دراسة صوت الحمار من منظور لغوي، علمي وسلوكي

يُعد صوت الحمار، المعروف في اللغة العربية باسم “النهيق”، من أكثر الأصوات تميزًا في عالم الحيوان، نظراً لطبقة صوته العالية وإيقاعه الفريد وطوله النسبي مقارنة بأصوات باقي الحيوانات الداجنة. وقد شكل هذا الصوت محورًا للعديد من الدراسات في مجالات علم الحيوان، علم الأصوات، علم السلوك، وحتى الأدب الشعبي واللغويات. ويهدف هذا المقال إلى تقديم دراسة موسعة وشاملة لصوت الحمار من مختلف الزوايا العلمية، البيولوجية، اللغوية والاجتماعية، مع التركيز على دلالاته، خصائصه الفيزيولوجية، وأهميته في التواصل داخل مجتمع الحمير.

تعريف النهيق من منظور لغوي وعلمي

في اللغة العربية، يُعرف صوت الحمار بالنهيق، ويقال “نهق الحمار نهيقًا”. ويُصنف هذا الفعل ضمن الأفعال التي تُستخدم حصريًا مع فئة معينة من الحيوانات، كما هو الحال مع نباح الكلب، مواء القط، صياح الديك، وغيرها. في علم الأصوات الحيوانية، يُعتبر النهيق من الأصوات المركبة متعددة الطبقات، إذ يجمع بين الترددات العالية والمنخفضة ضمن سلسلة متواصلة من الزفرات الصوتية الطويلة والمتقطعة.

الخصائص البيولوجية والفسيولوجية للنهيق

يُنتَج صوت النهيق من خلال اهتزاز الحبال الصوتية الموجودة في الحنجرة، والتي تقع في نهاية القصبة الهوائية. وفي حالة الحمار، تتميز هذه الحبال بطولها وقدرتها على التمدد والاهتزاز بدرجة أكبر من باقي الحيوانات، مما يسمح بإصدار صوت مرتفع يمتد لعدة ثوانٍ وقد يصل إلى كيلومترات عدة في المناطق المفتوحة.

يعتمد النهيق على اندفاع الهواء من الرئتين عبر الحنجرة، مرورًا بالحلق والفم المفتوح بشكل جزئي. ويعزز التجويف الفموي والأنفي من رنين الصوت، ما يمنحه خصائصه المميزة في الطول والحِدة.

الجدول التالي يُلخص الخصائص الفسيولوجية للنهيق:

وظائف النهيق ودلالاته السلوكية

رغم أن كثيرين ينظرون إلى صوت الحمار بوصفه مجرد سلوك غريزي، إلا أن النهيق يُعد وسيلة تواصل فعّالة ومعقدة تستخدمها الحمير في مختلف الظروف البيئية والاجتماعية. ويمكن تقسيم دلالات النهيق إلى ما يلي:

1. إعلان عن الوجود

غالبًا ما يستخدم الحمار صوته للإعلان عن وجوده في منطقة معينة، خاصة إذا كان وحيدًا أو يريد جذب انتباه حمير أخرى.

2. التحذير من خطر

عند استشعار خطر قريب، قد يُصدر الحمار صوت نهيق ممدود وقوي لتحذير باقي أفراد القطيع، وهو ما يمثل سلوكًا وقائيًا طبيعيًا.

3. طلب الغذاء أو الاستغاثة

في ظروف نقص الطعام أو الماء، يُستخدم النهيق كوسيلة لجذب انتباه الإنسان الذي يعتني به أو لطلب المساعدة من الآخرين.

4. التعبير عن الألم أو الانزعاج

قد يصدر الحمار صوت النهيق عند تعرضه للألم الجسدي، سواء نتيجة إصابة أو ضغط نفسي أو سوء معاملة.

الفرق بين نهيق الذكر والأنثى

تشير الدراسات الصوتية إلى أن هناك فروقًا واضحة بين نهيق ذكر الحمار (الحمار) ونهيق الأنثى (الأتان). وغالبًا ما يكون صوت الذكر أعلى وأكثر امتدادًا، بينما يتميز صوت الأنثى بأنه أقل حدة وأقصر زمنًا. كما أن الذكر يميل لاستخدام النهيق بكثرة في موسم التزاوج لجذب الإناث أو إعلان السيطرة على منطقة معينة.

تطور النهيق عبر الزمن

الحمير حيوانات أليفة كانت تُستخدم منذ آلاف السنين في النقل والزراعة. وقد تطور صوت النهيق مع تطور علاقتها بالإنسان. فالنهيق في الحمير البرية، على سبيل المثال، يكون أكثر حدّة وأطول زمنًا من الحمير المستأنسة. ويعود ذلك إلى حاجتها لاستخدام الصوت كوسيلة تواصل أساسية في بيئات واسعة ومفتوحة حيث يصعب الاتصال البصري.

كما أن التدجين جعل الحمير تطور أنماطًا صوتية تختلف قليلاً حسب بيئاتها وثقافات المجتمعات التي تعيش فيها. فالحمار في الأرياف الجبلية قد ينهق بشكل يختلف عن الحمار في البيئات الصحراوية، نظرًا لاختلاف الاحتياجات البيئية والضغوط الاجتماعية.

النهيق في الثقافة الشعبية واللغة العربية

احتل النهيق مكانة خاصة في الذاكرة الثقافية واللغة العربية. فقد ورد ذكره في الشعر، والأمثال الشعبية، والحكايات التراثية. ويُستخدم أحيانًا كتشبيه في البلاغة العربية لوصف الأصوات العالية المزعجة أو غير المتناغمة. كما يُستدل على صوته في قوله تعالى: “إن أنكر الأصوات لصوت الحمير” في سورة لقمان، ما يعكس حضور هذا الصوت في الوجدان الديني والثقافي العربي.

وفي الأدب الشعبي، كثيرًا ما ارتبط الحمار بالصبر والتحمل، إلا أن صوته ظل محل سخرية لدى البعض. وهذا التناقض يعكس نظرة مزدوجة للحمار، فهو حيوان مفيد وذو قدرات كبيرة، لكن صوته لم يلق نفس الاحترام، ربما لطبيعته الفجائية وحدّته.

النهيق في الدراسات العلمية الحديثة

في السنوات الأخيرة، بدأ علماء الحيوان والسلوكيات دراسة النهيق بشكل أكثر دقة باستخدام تقنيات تسجيل وتحليل الصوت الرقمي. وقد كشفت هذه الدراسات أن كل حمار يمتلك نمطًا صوتيًا فريدًا، يشبه إلى حد ما بصمة الصوت عند البشر. ويُستخدم هذا التميّز الصوتي لتحديد الحمير بشكل فردي، ما قد يسهم في تطوير طرق جديدة لتتبع الحيوانات ورعايتها.

كما أظهرت البحوث أن تكرار النهيق قد يرتبط بمستوى التوتر والقلق عند الحمار، ما يفتح الباب أمام استخدام الصوت كمؤشر لصحة الحيوان النفسية والجسدية. ويتم حاليًا تطوير أجهزة تحليل صوتي تُركب في الحظائر بهدف مراقبة سلوك الحمير والتدخل في الوقت المناسب عند ملاحظة أي تغيّر في نمط النهيق.

دور النهيق في الحياة الاجتماعية للحمير

يُعد النهيق وسيلة تواصل اجتماعية رئيسية بين أفراد القطيع. فعبر النهيق، يمكن للحمار التعبير عن الفرح، الغضب، الخوف، أو حتى التحية عند رؤية حمار آخر مألوف. كما تلجأ الأتان أحيانًا إلى إصدار أصوات نهيق منخفضة لجذب صغيرها أو تهدئته.

ومن الملفت للنظر أن الحمير يمكنها التعرف على بعضها البعض من خلال الصوت، إذ أظهرت دراسات أن الحمار يمكنه تمييز صوت رفيقه حتى بعد غياب طويل. هذا يُشير إلى وجود ذاكرة صوتية متقدمة نسبياً لدى هذا الحيوان.

تأثير الظروف البيئية على وتيرة النهيق

تؤثر الظروف البيئية بشكل كبير على وتيرة النهيق. ففي المناطق ذات الحرارة المرتفعة، قد يقلل الحمار من إصدار الصوت لتوفير الطاقة والماء، بينما يزداد النهيق في فترات النشاط الاجتماعي مثل موسم التزاوج أو أوقات الرعي. كما أن الضوضاء المحيطة قد تدفع الحمار إلى زيادة شدة صوته ليصل إلى أعضاء القطيع الآخرين.

الختام: النهيق كجزء من هوية الحمار البيولوجية والاجتماعية

يشكل النهيق أحد أهم عناصر هوية الحمار البيولوجية والسلوكية. فهو ليس مجرد صوت عرضي، بل يمثل لغة تواصل متكاملة ومعقدة تحمل دلالات بيئية ونفسية واجتماعية. وتكشف دراسة النهيق عن بُعد جديد لفهم سلوك الحيوانات وقدرتها على التعبير، كما يفتح الباب أمام تطوير تقنيات جديدة لتحسين رعاية الحيوان والتفاعل معه بشكل أكثر إنسانية واحترامًا.

المراجع:

1. Bradshaw, J.W.S. & Casey, R. A. (2009). The Behaviour of the Domestic Donkey. Veterinary Clinics of North America: Equine Practice.

2. McDonnell, S. (2003). The Equid Ethogram: A Practical Field Guide to Horse Behavior. Lexington, KY: The Blood-Horse Inc.