مكانة الأم وتأثيرها

مكانة الأم في الثقافة والوجدان الإنساني

إن الحديث عن الأم ليس مجرد استحضار لعاطفة أو استذكار لحنان، بل هو استقراء لمفهوم إنساني خالد يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، ويمتد إلى عمق الكيان البشري، حيث تُجسد الأم جوهر الرحمة، ونبع العطاء، ومصدر التوازن الأسري والمجتمعي. منذ فجر الإنسانية، كانت الأم محور الحياة، وأساس استمراريتها، فهي الحاضنة الأولى للمشاعر، والمعلمة الأولى للقيم، والسند الأبدي في رحلة الإنسان مع الوجود.

الأم عبر العصور والثقافات

عبر التاريخ، حظيت الأم بتقدير رفيع ومكانة سامية في مختلف الحضارات. ففي الحضارة المصرية القديمة، كانت “إيزيس” رمزاً للأمومة، إذ اعتُبرت الإلهة الحامية للأسر والمجتمعات. أما في الحضارة الإغريقية، فظهرت تماثيل الآلهة “ريا” و”ديميتر” كتجسيد للأم الأرض والمصدر الخصب. وفي الإسلام، جعل النبي محمد ﷺ برّ الأم مقدماً على برّ الأب، حيث قال: “أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك”، دلالةً على مكانة الأم في التربية والرعاية والتضحية.

الأم في الأدب والفكر

لم تغب صورة الأم عن الأدب العالمي والعربي، فقد كانت ملهمة للشعراء والروائيين والفلاسفة. قال الشاعر محمود درويش: “أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي”، وهي عبارة لم تعكس فقط الحنين، بل صورت العمق الرمزي للارتباط بالأم كمصدر للدفء والهوية. أما جبران خليل جبران، فقال: “الأم هي كل شيء في هذه الحياة: هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف”، وقدّم بذلك صورة فلسفية للأم تتجاوز المشاعر لتصل إلى المفهوم الوجودي.

الأم في الأديان

لا تقتصر مكانة الأم على النصوص الأخلاقية أو الثقافية، بل هي مكرّسة في الكتب السماوية. ففي الإسلام، وردت العديد من الآيات التي تحثّ على برّ الوالدين، وخاصة الأم، لما تعانيه من مشقة الحمل والولادة والرضاعة. قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾ [الأحقاف: 15].

وفي المسيحية، يُنظر إلى السيدة مريم العذراء باعتبارها النموذج الأمثل للأمومة الطاهرة والحنان الإلهي، وقد وُضعت في مكانة مقدسة، حيث تُذكر بتبجيل في مختلف الكنائس والمناسبات الدينية. أما في الديانة اليهودية، فتُعدّ الأم مركز الهوية الدينية، حيث تُنسب الديانة اليهودية للأبناء عن طريق الأم.

دور الأم في تكوين المجتمعات

الأم ليست مجرد عضو في الأسرة، بل هي قلبها النابض وروحها الموجهة. فالأم تزرع في الأبناء القيم منذ نعومة أظافرهم، وتؤسس لبنية شخصية تقوم على المبادئ والأخلاق. وعبر التربية المتواصلة، تخلق الأم جيلًا واعيًا، قادرًا على مواجهة تحديات الحياة. في الحقيقة، تُمثل الأم المدرسة الأولى، التي منها يتلقى الإنسان أول دروسه في الحياة: في الحب، والعطاء، والمسؤولية، والانضباط.

وقد أظهرت الدراسات التربوية أن الأطفال الذين ينشؤون في كنف أمهات حاضنات وداعمات نفسيًا واجتماعيًا، يتمتعون بثقة أكبر في النفس، وبمهارات تواصل أعلى، وبقدرة أفضل على حل المشكلات، مقارنة بأقرانهم الذين يفتقرون إلى الحنان أو الاستقرار العاطفي في مرحلة الطفولة.

التضحيات اليومية للأم

التضحية عنصر مركزي في مفهوم الأمومة. فالأم تضحي بصحتها وجسدها من أجل حمل الجنين، ثم ترهق جسدها بالسهر والرضاعة ورعاية الطفل، وتضع احتياجات أبنائها فوق احتياجاتها الشخصية. بل إن هناك أمهات يقمن بدور الأب والأم معًا، خاصة في الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية الصعبة، وتتحول الأم إلى عاملة ومعيلة ومرشدة نفسية في آن واحد.

لا تقف التضحيات عند الجانب الجسدي أو المالي فقط، بل تمتد إلى الجانب العاطفي والفكري. فالأم تعيش هموم أبنائها، وتفرح لفرحهم، وتحزن لحزنهم، وتسهر لدعائهم حتى لو بلغوا الكهولة. هذه العلاقة غير المشروطة بين الأم وأبنائها تشكل جوهر الأمومة، وتؤكد أن العطاء لدى الأم لا يُقاس بميزان مادي، بل هو عطاء روحي وإنساني لا حدود له.

الأم والهوية النفسية للطفل

يرى علماء النفس أن العلاقة بين الأم والطفل في السنوات الأولى تشكل حجر الأساس في بناء هوية الإنسان النفسية والعاطفية. وتُعتبر مرحلة الارتباط الأولي (Attachment) من أهم المراحل التي تُحدد لاحقًا قدرات الفرد على تكوين علاقات صحية، وقدرته على الثقة بالآخرين، والاستقرار العاطفي.

وقد وضع “جون بولبي” نظرية الارتباط، مؤكدًا أن وجود أم متجاوبة عاطفيًا وفعّالة في رعاية الطفل يخلق شعورًا داخليًا بالأمان، يجعل الطفل أكثر توازنًا في المستقبل. وعلى النقيض، فإن غياب الأم أو التجاهل العاطفي يؤدي إلى اضطرابات نفسية قد تُرافق الإنسان طيلة حياته.

الأم في عصر العولمة والتحولات الاجتماعية

رغم كل ما سبق، فإن الأم في العصر الحديث تواجه تحديات جديدة فرضتها العولمة وسرعة الحياة. أصبحت الأم العاملة في صراع دائم بين تحقيق ذاتها المهنية وبين تلبية احتياجات أسرتها. كما ظهرت التحديات الرقمية التي أثرت على طريقة تربية الأبناء، حيث تحتاج الأم اليوم إلى مهارات إضافية في التعامل مع وسائل التواصل والتكنولوجيا وتأثيراتها على الأطفال.

لم تعد الأم فقط معلمة السلوكيات اليومية، بل أصبحت مضطرة لفهم علم النفس الرقمي، ومتابعة تطورات التعليم الإلكتروني، والتصدي لمخاطر التنمر الإلكتروني، والإدمان الرقمي، والانغلاق الاجتماعي الذي تفرضه الشاشات. إنها أعباء جديدة تتطلب من المجتمعات دعمًا مؤسسيًا أكبر للأمهات، عبر توفير سياسات عمل مرنة، ودورات تدريبية، وخدمات نفسية.

تمجيد الأم في المناسبات العالمية

يُحتفل بيوم الأم في تواريخ مختلفة حول العالم، كنوع من الاعتراف الرسمي بدورها المحوري. ففي العالم العربي، يُحتفل به في 21 مارس من كل عام، بينما يُحتفل به في الولايات المتحدة في الأحد الثاني من شهر مايو. وتُقام فيه فعاليات اجتماعية وثقافية لتكريم الأمهات، وتُمنح فيه الجوائز التقديرية للأمهات المثاليات.

لكن رغم رمزية هذا اليوم، فإن الأم لا تحتاج ليوم وحيد للتقدير، بل تحتاج لثقافة مجتمعية متكاملة تقوم على احترام المرأة الأم، وتشجيع مشاركتها الفاعلة في الحياة العامة، مع الحفاظ على دورها الأسري.

صور رمزية للأم في الفنون والثقافة

في الفن العربي والعالمي، جسدت الأم كرمز للخصوبة والتضحية والنقاء. وتظهر في اللوحات التشكيلية كعنصر مركزي في المشهد العائلي. أما في السينما، فقد صورت الأم أحيانًا بصورة المناضلة الصبورة، وأحيانًا بصورة المربية العظيمة التي تصنع الأبطال في الخفاء. وتُعتبر شخصية الأم في الأفلام من الشخصيات الأكثر تأثيرًا على المتلقي، لأنها تلامس مشاعر الوجدان الجمعي.

جدول يوضح الفروق الثقافية في رمزية الأم

الخاتمة

الأم ليست مجرد كلمة تُقال، ولا مشاعر مؤقتة تُستدعى في المناسبات. إنها كيان متكامل من الحب والبذل والصبر، تجسيد حي للرحمة الإلهية في الأرض، وعماد التماسك الأسري والمجتمعي. والحديث عنها لا يُختصر في مقال ولا يُقاس بمقياس، بل هو امتنان متواصل في كل لحظة من لحظات الحياة، ووعي دائم بقيمة الإنسان الذي أعطى بلا حدود، وسهر بلا كلل، وربّى بلا مقابل.

المصادر:

1. القرآن الكريم

2. John Bowlby: Attachment and Loss, Basic Books, 1969.