كيف تصنع الفخار: الحرفة التي تحدّت الزمن

تُعد صناعة الفخار من أقدم الحرف التي عرفها الإنسان، وتُمثل شاهداً حضارياً مادياً على تقدم المجتمعات منذ العصور الأولى حتى يومنا هذا. لم تكن الأواني الفخارية مجرد أدوات للاستخدام اليومي فقط، بل كانت أيضاً وسيلة للتعبير الفني والرمزي والروحي في حضارات متعددة كحضارات بلاد ما بين النهرين، ومصر القديمة، وبلاد اليونان، وروما، والصين، والعالم العربي الإسلامي. إن صناعة الفخار تنطوي على عملية فنية وتقنية معقدة تبدأ من الطين الخام وتنتهي بقطعة فنية صلبة تجمع بين الجمال والوظيفة.

في هذا المقال سيتم استعراض الخطوات الدقيقة التي تمر بها عملية صناعة الفخار، ابتداءً من تحضير المواد الخام، مرورًا بتشكيل القطع، ثم تجفيفها، وزخرفتها، وحرقها في الأفران التقليدية أو الحديثة، وانتهاءً بطرق التزجيج المتنوعة التي تمنح الفخار شكله النهائي. كما سيتم التطرق إلى الأدوات المستخدمة في هذه الحرفة، والأساليب التقليدية والمعاصرة في تشكيل الطين، ودور الفخار في الحياة الاقتصادية والثقافية.

أولاً: تحضير المواد الخام

المادة الأساسية في صناعة الفخار هي الطين، وهو تربة تحتوي على نسبة عالية من السيليكات والألومينا ومركبات أخرى تمنحها خاصية اللدونة، أي قابليتها للتشكل دون أن تتشقق. ويتفاوت نوع الطين حسب المنطقة الجغرافية، مما يؤثر في لون الفخار وخواصه الفيزيائية بعد الحرق.

أنواع الطين المستخدمة في صناعة الفخار:

مراحل تحضير الطين:

1. استخراج الطين من الطبيعة: يُستخرج من باطن الأرض أو من ضفاف الأنهار، ويكون عادةً ملوثًا بالشوائب مثل الحصى والجذور.

2. تنقية الطين: يُترك الطين في أحواض مائية ليترسب الشوائب الثقيلة، ثم يُصفى ويُغربل.

3. تخمير الطين: يُترك لفترة حتى يتخمر ويتجانس مما يزيد من لدونته.

4. عجن الطين: يُعجن باليد أو بواسطة آلات خاصة لطرد فقاعات الهواء وضمان توحيد القوام.

ثانياً: تشكيل الفخار

تشكل هذه المرحلة قلب العملية الفنية، وفيها يُحول الطين إلى شكل معين حسب الحاجة، سواء كان آنية، أو إبريقاً، أو مزهرية، أو تمثالاً. وتتعدد تقنيات التشكيل بحسب المهارة والأدوات المتوفرة.

أساليب التشكيل:

1. التشكيل اليدوي (باللف أو اللصق): يتم بواسطة لف شرائح الطين حول بعضها، أو لصق كتل صغيرة لتكوين الشكل النهائي. هذه الطريقة شائعة في القرى والمناطق الريفية.

2. التشكيل بالقالب: يُسكب الطين السائل في قوالب جاهزة من الجبس، وتُترك لتأخذ شكل القالب ثم تُفرغ.

3. استخدام الدولاب (عجلة الفخار): تُعد أكثر الطرق دقة وانتشاراً في الورش، ويتم وضع كتلة الطين على عجلة دوارة تُدار يدوياً أو آلياً، ويشكل الفخاري الطين بيديه أثناء دورانه.

ثالثاً: التجفيف

بعد الانتهاء من تشكيل القطع الطينية، تُترك لتجف تدريجياً في مكان جيد التهوية وبعيد عن الشمس المباشرة أو الرياح الشديدة. إن الهدف من هذه المرحلة هو تبخر الرطوبة الداخلية بشكل متوازن لتجنب التشققات.

مدة التجفيف تعتمد على حجم القطعة وسُمكها، وقد تمتد من يومين إلى أسبوعين. وفي بعض الورش المتطورة، تُستخدم أفران تجفيف كهربائية لضبط درجة الحرارة والرطوبة بدقة.

رابعاً: الزخرفة

قبل حرق القطع الطينية، يمكن زخرفتها بطرق متعددة تضيف لها لمسة جمالية وفنية. وتُعتبر الزخرفة جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الفخار، إذ تعكس الذوق الفني والهوية الحضارية لصانعها.

أبرز طرق الزخرفة:

• الحفر على الطين: تُنقش أشكال هندسية أو نباتية باستخدام أدوات حادة قبل أن يجف الطين.

• التطعيم: يتم بإضافة شرائح طين ملوّن أو مختلف على السطح وتثبيتها بطريقة فنية.

• الطباعة بالقوالب: باستخدام نقوش جاهزة تُضغط على الطين لتترك أثراً زخرفياً.

• الرسم بالألوان الطينية: باستخدام أكاسيد معدنية تُرسم الزخارف على القطعة قبل أو بعد الحرق الأول.

خامساً: الحرق

تمثل هذه المرحلة الفيصل بين الطين والفخار، حيث يتحول الطين من مادة قابلة للكسر بسهولة إلى مادة صلبة مقاومة للعوامل الخارجية. تُوضع القطع المجففة في فرن خاص يُعرف بـ”فرن الحرق”، وهناك نوعان من الحرق: الحرق الأولي والحرق النهائي.

أنواع الأفران:

• الفرن التقليدي (بالخشب أو الفحم): يُستخدم في القرى ويستغرق وقتاً أطول ويتحكم فيه يدوياً.

• الفرن الكهربائي أو الغازي: يُستخدم في المصانع الحديثة ويوفر تحكماً دقيقاً بدرجة الحرارة.

درجات الحرارة:

• الحرق الأولي (البيسك): يتم عند درجة حرارة تتراوح بين 800 و1000 درجة مئوية.

• الحرق النهائي (مع التزجيج): يتم عند درجات حرارة أعلى تصل إلى 1300 درجة مئوية، حسب نوع الطين والمطلوب النهائي.

سادساً: التزجيج (التلميع)

يُعتبر التزجيج المرحلة الأخيرة في صناعة الفخار، ويُهدف إلى إضفاء لمعان ومقاومة للماء وتحسين الجانب الجمالي للقطعة. يُصنع الزجاج المستخدم من مواد كيميائية مثل السيليكا والصودا وأكسيدات معدنية، ويُوضع على الفخار بطريق الرش أو الغمس أو الفرشاة، ثم يُعاد الحرق مرة أخرى لتثبيت الزجاج.

أنواع التزجيج:

الأدوات المستخدمة في صناعة الفخار

تختلف الأدوات المستخدمة حسب المرحلة، منها اليدوي ومنها الآلي، وتُسهم في تحسين دقة العمل وجودته.

أهم الأدوات:

• المجرود: لتقطيع الطين.

• المسطرين: لتسوية الأسطح.

• أدوات الحفر (الإزميل، الإبرة): للزخرفة.

• أداة الدولاب: لتشكيل القطع.

• المناخل والأحواض: لتنقية الطين.

• الفرن: لحرق القطع.

الفخار بين التقليد والتكنولوجيا

رغم أن صناعة الفخار بدأت كحرفة يدوية تقليدية، إلا أن العصر الحديث شهد تطوراً ملحوظاً في هذه الصناعة، حيث دخلت التكنولوجيا في جميع مراحلها. يتم حالياً استخدام برامج التصميم بالحاسوب لتشكيل النماذج ثلاثية الأبعاد قبل التنفيذ الفعلي، كما أن الأفران الحديثة تسمح بضبط درجات الحرارة والرطوبة بدقة بالغة لضمان نتائج موحدة.

كما أن هناك محاولات جادة للحفاظ على التراث التقليدي من خلال دمج الأساليب القديمة في المنتجات الحديثة، مما يخلق توازناً بين الحرفية والحداثة، ويعزز من قيمة المنتج الفخاري في الأسواق المحلية والعالمية.

الفخار ودوره في الثقافة والاقتصاد

لا تقتصر أهمية الفخار على كونه أداة عملية أو تحفة فنية، بل يمتد ليكون رمزاً ثقافياً يحمل ملامح الهوية الوطنية. ففي كل منطقة نجد أنماطاً زخرفية وأشكالاً تعكس الموروث الثقافي والديني والاجتماعي. وفي العالم العربي، لا تزال ورش الفخار التقليدية قائمة في المغرب، تونس، مصر، اليمن، وسوريا، وغيرها من الدول، حيث تنتج أدوات منزلية، وتماثيل فنية، وأواني دينية كالمجامر والقلل.

اقتصاديًا، تسهم صناعة الفخار في خلق فرص عمل داخل الحرف التقليدية والصناعات الثقافية، وتُعد جزءاً من الصناعات الصغيرة والمتوسطة، كما أنها مصدر دخل مهم للسياحة الثقافية والحرفية.

الخلاصة

تمثل صناعة الفخار مزيجاً نادراً من الفن، والتاريخ، والمهارة اليدوية، والتطور التكنولوجي، وهي حرفة تُجسد العلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة عبر تحويل مادة بسيطة كـ”الطين” إلى قطع فنية خالدة. إن كل مرحلة من مراحل إنتاج الفخار، من تحضير الطين إلى الحرق والتزجيج، تتطلب معرفة دقيقة، وتقاليد متوارثة، وابتكاراً مستمراً. ويُعد الحفاظ على هذه الحرفة من أولويات السياسات الثقافية التي تسعى إلى تعزيز الهوية الوطنية، وتوفير فرص عمل مستدامة، والمشاركة في تنشيط الاقتصاد الإبداعي.

المراجع:

1. Peterson, Susan. The Craft and Art of Clay. Laurence King Publishing, 2016.

2. Rice, Prudence M. Pottery Analysis: A Sourcebook. University of Chicago Press, 1987.