صفات عباد الرحمن في القرآن

صفات عباد الرحمن في سورة المؤمنون

تشكل صفات عباد الرحمن جزءًا أساسيًا من البناء الروحي والأخلاقي في القرآن الكريم، وهي تجسيد للمنظومة القيمية التي يريد الإسلام غرسها في نفوس المؤمنين. وإذا كانت سورة الفرقان قد ذكرت هذه الصفات بلفظ “عباد الرحمن”، فإن سورة المؤمنون، دون أن تذكر هذا اللفظ صراحة، قدمت لنا وصفًا دقيقًا للمؤمنين الحقيقيين الذين هم في حقيقتهم عباد للرحمن، وذلك في افتتاحها البديع الذي رسم صورة متكاملة عن خصالهم وسلوكهم وأخلاقياتهم. وهذه الصفات لا تقتصر على الطقوس التعبدية، بل تشمل أبعادًا أخلاقية واجتماعية وسلوكية شاملة، ما يجعلها منهجًا كاملاً في الحياة.

تبدأ سورة المؤمنون بقوله تعالى:

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۝ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ۝ أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة المؤمنون: 1-11].

أولاً: الفلاح ثمرة الإيمان الحقيقي

افتتحت السورة بالإعلان عن فلاح المؤمنين، وهذا الفلاح لا يُقصد به النجاح المحدود أو المؤقت، بل هو النجاح الحقيقي الشامل الذي يشمل الدنيا والآخرة. فهؤلاء المؤمنون قد ظفروا بخيري الدنيا والآخرة لأنهم التزموا طريق الإيمان الصادق الذي يتجلى في السلوك والعبادة والنية.

ثانيًا: الخشوع في الصلاة

{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}

الصفة الأولى التي استهل بها الوصف هي الخشوع في الصلاة، وهو حالة من الخضوع التام والتذلل لله تعالى، تفيض على الجوارح والأعضاء سكينةً واستقرارًا. فخشوع القلب ينعكس على خشوع الجسد، وهذا هو جوهر الصلاة وروحها. لا يكتفي الإسلام بالركوع والسجود الظاهري، بل يطلب من المسلم أن يكون حاضر القلب أثناء الصلاة، متدبرًا لآياتها، مستشعرًا لعظمة من يقف بين يديه.

ثالثًا: الإعراض عن اللغو

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}

اللغو هو الكلام أو الفعل الذي لا فائدة منه، وقد يشمل اللهو والغيبة والنميمة وكل ما لا يرضي الله. فالمؤمن الحقيقي يسمو عن التورط في أحاديث أو أفعال لا تبني شخصيته ولا تنفع أمته. هذا الإعراض لا يعني الانسحاب من الحياة الاجتماعية، بل التمييز الدقيق بين الجد والهزل، بين ما يستحق الانشغال به وما يجب تركه.

رابعًا: أداء الزكاة

{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}

الزكاة في هذه الآية قد تُفهم بمعناها الشرعي، أي إخراج المال الواجب للفقراء، وقد تُفهم بمعناها العام، أي تطهير النفس من الأنانية والبخل. وهي تعبير عن مدى ارتباط المؤمنين بالعدالة الاجتماعية، وعن إدراكهم العميق لمسؤولياتهم تجاه المجتمع. فالمؤمن لا يحتكر الخير، بل يسهم في نشره ودوامه.

خامسًا: حفظ الفروج

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}

حفظ الفرج من الزنا والفواحش هو من أعظم مظاهر التقوى. فالإسلام لا يساوي بين من يتبع شهواته بلا ضوابط، وبين من يقيم حياته على الطهارة والعفاف. وقد جاءت الآية بعدها لتبيّن أن الاستثناء الوحيد من هذا الحفظ هو في إطار العلاقة الزوجية أو ما ملكت اليمين زمن التشريع، وهو استثناء مقرون بالشرعية والضوابط الأخلاقية، لا بالفوضى والانفلات.

سادسًا: الأمانة والوفاء بالعهد

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}

المؤمن الحق هو من يتحمل المسؤولية ويصون الأمانة، سواء كانت أمانة مادية أو معنوية، سواء في المال أو في الأسرار أو في الوظائف. كما أنه يفي بعهوده ولا يغدر. وهذه الصفة تُشكل أساس الثقة المتبادلة في أي مجتمع. فبغياب الأمانة والعهد ينهار البناء الاجتماعي وتتفشى الخيانة والفوضى.

سابعًا: المحافظة على الصلاة

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}

بينما كانت أول صفة هي الخشوع في الصلاة، تختم هذه الصفات بالمحافظة عليها، وهذا يدل على مركزية الصلاة في حياة المؤمن. فالمحافظة تشمل أداؤها في وقتها، والإتيان بها على وجهها الصحيح، دون تسويف أو تهاون. هي ركيزة العلاقة بين العبد وربه، وتعبير دائم عن الانتماء إلى دائرة الطاعة.

ثمرة هذه الصفات: الفردوس الأعلى

{أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

الخاتمة جاءت بوعد عظيم: وراثة الفردوس. ليس المقصود بها أي درجة من درجات الجنة، بل أعلى مراتبها، وهي “الفردوس”. هذا الإرث ليس ماديًا ولا دنيويًا، بل هو مكافأة إلهية خالدة، نتيجة التزكية والسعي الصادق. فالخلود في الفردوس هو غاية المؤمن، وجائزة من يلتزم بهذه الصفات في حياته.

الجدول التالي يلخص صفات عباد الرحمن كما وردت في سورة المؤمنون:

صفات تكاملية لحياة متزنة

لا بد من التنبه إلى أن هذه الصفات لا تعمل بشكل منفصل، بل تتكامل مع بعضها لتصوغ شخصية إيمانية قوية. فالخشوع في الصلاة ينعكس على سلوك الإنسان خارجها، والإعراض عن اللغو يحمي المجتمع من التفكك، والزكاة تضمن التكافل، وحفظ الفروج يعزز الطهارة، والأمانة تحفظ الثقة بين الأفراد، والمحافظة على الصلاة تجعل من هذه الصفات سلوكًا مستمرًا وليس طارئًا.

العلاقة بين صفات سورة المؤمنون و”عباد الرحمن”

مع أن مصطلح “عباد الرحمن” لم يرد في سورة المؤمنون، فإن الصفات الواردة فيها تمثل الجوهر العميق لمعنى هذا الاصطلاح كما ورد في سورة الفرقان. فكلا السورتين تؤكدان على أن العبادة الحقيقية لا تقتصر على الطقوس الظاهرة، بل تمتد إلى الأخلاق والمعاملات. فالصلاة، الزكاة، العفة، الصدق، الأمانة، كلها تشكل نظامًا تربويًا متكاملًا.

في سياق التنزيل وترابط المعاني

تأتي هذه الآيات في بداية سورة المؤمنون لتشكل مدخلًا إلى السورة التي تتابع بعد ذلك بسرد قصص الأنبياء كأمثلة على هذه الصفات، وتتناول مراحل الخلق، وأدلّة التوحيد، وتناقش مواقف الكفار، مما يجعل الصفات التي استهلت بها السورة كأنها الميزان الذي تُقاس به المواقف والقصص اللاحقة. فالسورة بهذا تتكامل بنيانيًا من حيث البناء العقدي والتربوي.

الخلاصة البنيوية

سورة المؤمنون رسمت في بدايتها ملامح واضحة لعباد الرحمن الصادقين، وبيّنت أن الفلاح الحقيقي مرتبط بهذه الصفات السبع، وهو ما يميز المؤمنين ويجعلهم ورثة للفردوس الأعلى. هذه الصفات ليست شعارات، بل برامج عملية تتطلب مجاهدة نفس مستمرة، وصدق نية، واستقامة دائمة. وهي في مجملها منهج حياة إسلامي متكامل يربط بين العقيدة والسلوك، بين الإيمان والعمل، وبين الدنيا والآخرة.

المراجع:

1. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.

2. الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن.