نظريات تفسر ظاهرة التنمر:
تعتبر ظاهرة التنمر واحدة من أكثر الظواهر الاجتماعية تأثيرًا على الأفراد في مختلف أنحاء العالم، خاصةً في البيئات المدرسية والجامعية وأماكن العمل. وعلى الرغم من أن التنمر يُعد سلوكًا مرفوضًا اجتماعيًا، إلا أنه يُشكل تحديًا كبيرًا في كيفية معالجته والحد من انتشاره. من أجل فهم هذه الظاهرة بشكل أعمق، تم تطوير العديد من النظريات التي تسعى لتفسير الأسباب الكامنة وراء سلوك التنمر وتقديم الحلول المناسبة للحد من انتشاره.
1. النظرية النفسية للسلوك العدواني
تُعد النظرية النفسية للسلوك العدواني واحدة من أكثر النظريات تأثيرًا في تفسير ظاهرة التنمر. وفقًا لهذه النظرية، فإن الأفراد الذين يمارسون التنمر يعانون في الغالب من مشاكل نفسية، مثل اضطرابات الشخصية أو صعوبات في التعامل مع عواطفهم. يتمثل الأساس النفسي لهذه النظرية في أن الأشخاص المتنمرين يميلون إلى استخدام العدوان كآلية دفاعية للتعامل مع مشاعر القلق أو النقص الداخلي.
في هذا السياق، يرى بعض الباحثين أن التنمر يكون نتيجة شعور الشخص بعدم الأمان أو فشل في تكوين علاقات إيجابية، مما يدفعه إلى محاكاة سلوكيات سلبية تساهم في تعزيز شعوره بالقوة والسلطة على الآخرين. كما تشير الدراسات إلى أن المتنمرين يكتسبون غالبًا سلوكهم العدواني من بيئتهم الاجتماعية، سواء كانت العائلة أو المجتمع، حيث يعايشون نماذج سلوكية مشابهة للتنمر والعدوانية.
2. نظرية التعلم الاجتماعي
تستند نظرية التعلم الاجتماعي، التي وضعها عالم النفس ألبرت باندورا، إلى فكرة أن الناس يتعلمون السلوكيات من خلال ملاحظة الآخرين ومحاكاة ما يرونه. وفقًا لهذه النظرية، فإن الأفراد الذين يمارسون التنمر غالبًا ما يكونون قد شاهدوا آخرين يمارسون سلوكيات مشابهة في حياتهم اليومية، سواء في العائلة أو المجتمع أو حتى من خلال وسائل الإعلام.
يركز هذا المنهج على تأثير النموذج السلوكي (الملاحظة والتقليد) في تشكيل سلوك الأفراد. إذا كان الطفل أو الشاب يشاهد والديه أو أقرانه يمارسون التنمر أو العدوانية في المواقف المختلفة، فإنه من المحتمل أن يتبنى هذه السلوكيات ويعتقد بأنها سلوكيات مقبولة في المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تؤكد النظرية على دور المكافأة التي قد يحصل عليها المتنمر، مثل زيادة السلطة أو الحصول على إعجاب الآخرين، مما يعزز من استمرار سلوكه العدواني.
3. نظرية الفروق الاجتماعية والاقتصادية
تتعلق هذه النظرية بتأثير الفروق الاجتماعية والاقتصادية على ظاهرة التنمر. تشير هذه النظرية إلى أن الأفراد الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعية أو اقتصادية منخفضة قد يكونون أكثر عرضة للمشاركة في سلوكيات التنمر نتيجة لضغوط الحياة اليومية. هذه الضغوط قد تؤدي إلى تطوير مشاعر الغضب أو الإحباط التي يتم تفريغها من خلال التنمر على الآخرين.
بالإضافة إلى ذلك، هناك عامل آخر يرتبط بهذه النظرية وهو مفهوم “الهيمنة الاجتماعية”. يعتقد بعض العلماء أن الأشخاص الذين يشعرون بالضعف أو التهميش في المجتمع قد يحاولون استعادة طاقتهم وكرامتهم من خلال ممارسة التنمر على أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم أضعف منهم أو أقل مكانة اجتماعية.
4. نظرية دور الأب أو السلطة في تشكيل سلوك التنمر
هذه النظرية تركز على تأثير دور الأب أو السلطة في حياة الأفراد على تطوير سلوكيات التنمر. تُظهر العديد من الدراسات أن الأطفال الذين يتعرضون للتهديد من قبل أحد الوالدين أو الأشخاص المهيمنين في حياتهم يميلون إلى محاكاة هذا السلوك في حياتهم اليومية. في حالة غياب أساليب التربية الإيجابية أو الدعم العاطفي، قد يتطور لدى الطفل شعور بالعجز يؤدي به إلى البحث عن طرق للتفوق على الآخرين، مثل التنمر.
تؤكد هذه النظرية على أهمية البيئة الأسرية في تشكيل سلوك الفرد، حيث تلعب الأسرة دورًا محوريًا في تعليم الأطفال كيفية التعامل مع المشاعر السلبية بشكل صحي. إذ أن غياب الحوار المفتوح حول المشاعر يمكن أن يؤدي إلى أن يكون التنمر هو الوسيلة الوحيدة التي يجدها الطفل لإظهار مشاعره أو استرداد سلطته.
5. نظرية الهرمية الاجتماعية
يركز هذا النموذج على مفهوم الهيمنة داخل المجموعات الاجتماعية. في إطار هذه النظرية، يُعتبر التنمر أداة يستخدمها الأفراد الذين يسعون لتأكيد سلطتهم أو مكانتهم داخل مجموعة اجتماعية. وفقًا لهذا المفهوم، يميل الأفراد إلى تقسيم أنفسهم إلى طبقات اجتماعية استنادًا إلى القوة والمكانة، حيث يكون الشخص الذي يظهر سلوكيات التنمر في الغالب هو الشخص الذي يسعى إلى الحفاظ على سلطته أو تحسين مكانته داخل المجموعة.
من خلال هذه النظرية، يمكن تفسير سلوك التنمر في المدارس أو أماكن العمل على أنه نتيجة لرغبة الأفراد في فرض سيطرتهم على الآخرين لضمان بقائهم في أعلى الهرم الاجتماعي.
6. نظرية الضغوط الاجتماعية والبيئية
تتعلق هذه النظرية بتأثير العوامل الاجتماعية والبيئية على تنامي سلوكيات التنمر. تتنوع هذه العوامل من ضغوط اجتماعية مثل الفقر، التمييز العنصري، والضغوط النفسية الناتجة عن العوامل البيئية المحيطة. تؤكد هذه النظرية على أن التنمر يمكن أن يكون رد فعل طبيعي على بيئة تتسم بالضغوط والتهديدات المتواصلة.
على سبيل المثال، في المجتمعات التي تشهد مستويات عالية من التوتر الاجتماعي أو القلق، قد يكون الأفراد أكثر عرضة لتوجيه هذا الضغط تجاه الآخرين بشكل عدواني. هذا يشمل الأفراد الذين ينشأون في بيئات تتميز بالعنف الأسري أو النقص في الدعم الاجتماعي، مما قد يدفعهم لتطوير سلوكيات عدوانية كرد فعل طبيعي على هذه الظروف.
7. نظرية التنافس والموارد المحدودة
تشير هذه النظرية إلى أن التنمر قد يكون ناتجًا عن التنافس على الموارد المحدودة. في العديد من الأحيان، يكون الأفراد في بيئات مثل المدارس أو أماكن العمل في حالة تنافس مستمر على المال، المكانة الاجتماعية، أو التقدير الشخصي. قد يؤدي هذا التنافس إلى تعزيز سلوكيات التنمر، حيث يسعى المتنمر إلى استغلال الوضع لصالحه من خلال الإضرار بالآخرين.
8. نظرية الشخصية النرجسية
النظرية النرجسية تعتبر أن بعض الأفراد يمارسون التنمر بسبب طبيعتهم النرجسية، حيث يشعرون بالحاجة المفرطة للإعجاب والتقدير. يعاني هؤلاء الأشخاص من ضعف في تقدير الذات، مما يدفعهم إلى الإساءة للآخرين بغية الشعور بالتفوق والسيطرة. هؤلاء المتنمرون قد يميلون إلى التقليل من شأن الآخرين لتعزيز شعورهم بالقيمة الذاتية.
الخلاصة
تُظهر هذه النظريات أن ظاهرة التنمر ليست سلوكًا منفردًا أو عابرًا، بل هي نتيجة لتفاعلات معقدة بين العوامل النفسية، الاجتماعية، الثقافية والبيئية. ولذا فإن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب فهماً عميقًا لكافة العوامل المؤثرة، وتطبيق استراتيجيات متنوعة تعمل على تحسين البيئة الاجتماعية، وتنمية المهارات الشخصية للأفراد للحد من سلوكيات التنمر.
