شهيدة البحر: قصة الفداء والمقاومة في تاريخ الأمة الإسلامية
في سجل الشرف الإسلامي الذي يزخر بأسماء الصحابة والصحابيات ممن بذلوا أرواحهم في سبيل الله، تبرز أسماء لم تُنسَ عبر القرون، لما لها من دلالات عظيمة في الإيمان، والصبر، والفداء. ومن بين هذه الأسماء، يظهر لقب “شهيدة البحر”، وهو لقب مميز ارتبط بإحدى الصحابيات الجليلات، وهي أم حرام بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنها، إحدى نساء المدينة المنورة الفاضلات، ومن أوائل من آمن بالله ورسوله، ومن المبشرات بالجنة.
هذا المقال يستعرض سيرة هذه الصحابية الجليلة، ويوضح سر تسميتها بشهيدة البحر، مع تحليل السياق التاريخي والديني الذي أحاط بمسيرتها، ويعرض لأبرز الدروس التي يمكن استخلاصها من حياتها واستشهادها.
النسب والنشأة
أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام الأنصارية النجارية، هي أخت أم سليم بنت ملحان، وعمّة أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ. تنتمي إلى قبيلة الخزرج من المدينة، وكانت من السابقات إلى الإسلام مع أسرتها المباركة التي حظيت بشرف صحبة النبي ﷺ منذ بدايات الدعوة في المدينة المنورة.
نشأت أم حرام في بيت عُرف بالتقوى والإيمان والتضحية، وكانت من الصحابيات القريبات إلى قلب النبي ﷺ، فقد كان يزورها أحيانًا، وكان ينام عندها ويأكل من طعامها، وهذا من مناقبها العظيمة التي وردت في كتب الحديث والسير.
زواجها وبيئتها الأسرية
تزوجت أم حرام من الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أحد النقباء في بيعة العقبة الكبرى، ومن قادة المسلمين البارزين، وقد عُرف بثباته على الحق وقوته في الدفاع عن الإسلام. وكان زواجها من عبادة نموذجًا للبيت الإسلامي الذي يجتمع فيه الإيمان والجهاد والعلم، وقد أسهما معًا في دعم النبي ﷺ والدعوة الإسلامية في مراحلها الصعبة.
مكانتها عند النبي ﷺ
أم حرام رضي الله عنها كانت تحظى بمكانة خاصة عند النبي ﷺ، فقد روى عنها أنس بن مالك رضي الله عنه حديثًا عجيبًا يوضح تلك العلاقة المميزة. فعن أنس قال:
“كان رسول الله ﷺ يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها يومًا، فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله ﷺ ثم استيقظ وهو يضحك. قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة. فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين. ثم نام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال مثل مقالته. فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت من الأولين.”
(رواه البخاري ومسلم)
هذا الحديث النبوي الشريف هو الأساس في تلقيبها بـ”شهيدة البحر”، لأنه يتضمن بشارة من النبي ﷺ بأنها ستكون من أوائل المسلمين الذين يركبون البحر جهادًا في سبيل الله، بل ومن الشهداء.
رحلة البحر واستشهادها
تحققت نبوءة النبي ﷺ بعد وفاته، وذلك في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، حين قام والي الشام آنذاك، معاوية بن أبي سفيان، بتنظيم أولى حملات المسلمين البحرية لفتح جزيرة قبرص، وكان ذلك في سنة 27 هـ. وقد شارك في هذا الفتح عدد من الصحابة والصحابيات، من بينهم عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام.
انطلقت الحملة من الشام في بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط)، وكان ركوب البحر في ذلك الوقت مخاطرة عظيمة، ولكن الحافز الجهادي والإيمان بالنصر كانا أقوى من الخوف.
وفي أثناء مشاركتها في الفتح، سقطت أم حرام من دابتها (أو من سفينتها حسب بعض الروايات)، فاستشهدت في سبيل الله، ودفنت في قبرص، حيث لا يزال قبرها يُعرف هناك حتى اليوم باسم “قبر المرأة الصالحة”، وهو مقامٌ يُجلّه المسلمون وغير المسلمين على حد سواء.
أبعاد لقب “شهيدة البحر”
لقب “شهيدة البحر” لم يكن مجرد تسمية رمزية، بل يحمل في طياته معاني روحية وتاريخية عميقة:
1. رمزية التضحية
أم حرام خرجت من المدينة الآمنة إلى أرض البحر والمجهول، لم تهاب الموت، بل سعت إليه في سبيل الله. كان دافعها رؤية النبي ﷺ، وإيمانه بنبوءته، وحرصها على أن تكون ممن اصطفاهم الله للجهاد في البحر.
2. السبق في الجهاد البحري
هي أول امرأة مسلمة تُسجّل في التاريخ كمجندة في حملة بحرية إسلامية، مما يدل على عظمة دور المرأة في الإسلام، الذي لا يقتصر على البيت، بل يتجاوز ذلك إلى المشاركة في ميادين الفداء والدعوة.
3. بشارة نبوية صادقة
وصف النبي ﷺ الغزاة بأنهم “ملوكًا على الأسرة”، وهي عبارة عظيمة تبيّن مدى الرفعة التي ينالها المجاهد في سبيل الله، حتى لو لم يُقتل، فكيف بمن مات شهيدًا في أول حملة بحرية.
الأثر التاريخي لاستشهاد أم حرام
كان لاستشهادها وقع كبير في نفوس الصحابة والمسلمين عامة، فهي ليست فقط أول امرأة تستشهد في البحر، بل رمزٌ للأمّة التي لا تهاب ركوب الأمواج في سبيل الحق.
لقد ساهمت هذه الحملة – التي كانت أم حرام جزءًا منها – في فتح باب الجهاد البحري أمام المسلمين، لتبدأ بعد ذلك الفتوحات البحرية الكبرى في عهد الأمويين والعباسيين. وشجعت هذه الخطوة المسلمين على استكشاف مناطق جديدة، وكان لها أثر سياسي واستراتيجي عظيم في التوسع الإسلامي نحو الغرب.
الجدول الزمني لحياة أم حرام رضي الله عنها
| الحدث | التفاصيل |
|---|---|
| النسب | أم حرام بنت ملحان الأنصارية من الخزرج |
| القرابة | أخت أم سليم وعمّة أنس بن مالك |
| الزواج | زوجة الصحابي عبادة بن الصامت |
| الخصوصية | كانت من نساء الأنصار اللاتي آوين النبي ﷺ |
| البشارة | بشّرها النبي ﷺ بأنها ستشارك في الجهاد البحري |
| زمن الحملة | في خلافة عثمان بن عفان، سنة 27 هـ |
| الاستشهاد | سقطت من دابتها أثناء المعركة واستشهدت في قبرص |
| اللقب | سُميت “شهيدة البحر” بعد تحقق بشارة النبي ﷺ |
الدروس المستفادة من سيرة أم حرام
1. المرأة المسلمة شريكة في الجهاد
لم يكن الإسلام حكرًا على الرجال في ميادين البذل، بل فتح المجال للنساء أيضًا، بشرط الإخلاص والانضباط. وأم حرام مثال ساطع على ذلك، فقد جمعت بين الإيمان، والصدق، والبطولة.
2. الثقة في وعود النبي ﷺ
قصة أم حرام تعكس صدق التوكل على الله وتصديق وعود نبيه ﷺ، فهي لم تتردد لحظة بعد أن سمعت الوعد النبوي، بل طلبت أن تكون من أهل هذا الفضل، فأكرمها الله بذلك.
3. دور الأنصار في تثبيت الدولة الإسلامية
عائلة ملحان، ومنهم أم حرام، كانت من البيوت الأنصارية التي قدّمت للإسلام أعظم التضحيات، بدءًا من استقبال النبي ﷺ، ومرورًا بنشر الدعوة، وانتهاءً بالشهادة.
4. البطولة لا تعرف سنًا أو جنسًا
أم حرام لم تكن شابة صغيرة عندما خرجت للجهاد في البحر، بل كانت في عمر متقدّم، ومع ذلك شاركت بفعالية، وهذا يُظهر أن الروح المؤمنة لا تشيخ، وأن الشهادة قد تكون نهاية شريفة لحياة من العطاء.
خاتمة
إن سيرة أم حرام بنت ملحان، شهيدة البحر، تظلّ نموذجًا خالدًا في ذاكرة الأمة الإسلامية، فهي لا تمثل فقط أول شهيدة بحرية في الإسلام، بل هي عنوان للإيمان المتجذر، وللإرادة القوية، ولليقين الراسخ بوعود الله ورسوله. لقد جسّدت في حياتها واستشهادها معاني الصدق، والجهاد، والثبات، وكانت بمثابة منارة تهتدي بها النساء والرجال على حد سواء في طريق البذل من أجل العقيدة.
المراجع:
-
ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل.
-
صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب الغزو في البحر.
