حكم شكر النعم في الإسلام
إنّ شكر النعم يُعدّ من أعظم مقامات العبودية، وهو من أركان العلاقة بين العبد وربّه. فقد بيّن الإسلام أهمية الشكر في حياة المسلم، ورفع من شأنه حتى جعله عبادةً مستقلةً يتقرّب بها العبد إلى الله تعالى. ولم يكن الشكر في الإسلام أمراً مندوباً فحسب، بل قرنه الله بالإيمان، وبيّن أن تركه قد يؤدي إلى العقوبة، وأن الشاكرين لهم منزلة عظيمة في الدنيا والآخرة. وهذا المقال يستعرض بالتفصيل حكم شكر النعم في الإسلام من حيث الوجوب، ومكانته في العقيدة والسلوك، وأثره في حياة الفرد والمجتمع، كما يتناول أنواع الشكر ووسائله ومراتبه.
أولًا: تعريف الشكر ومعناه في اللغة والشرع
في اللغة:
الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف. ويقال: “شكر فلان لفلان” إذا أثنى عليه بما قدمه له من إحسان. والشكر أيضًا يُطلق على مقابلة الإحسان بالاعتراف والامتنان.
في الاصطلاح الشرعي:
الشكر هو ظهور أثر النعمة على لسان العبد ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه محبةً وشهودًا، وعلى جوارحه طاعةً وانقيادًا. أي أنه اعتراف القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح.
قال ابن القيم رحمه الله:
“الشكر يكون بالقلب، وهو الاعتراف، وباللسان، وهو الثناء، وبالجوارح، وهو العمل”.
ثانيًا: حكم شكر النعم في الإسلام
اتفق العلماء على أن شكر النعمة واجبٌ شرعًا، وليس من باب المستحب أو النافلة فحسب، بل هو أمرٌ يدخل ضمن أوامر الإيمان والتقوى. وقد دل على وجوبه نصوص صريحة من القرآن والسنة.
1. من القرآن الكريم:
-
قال تعالى:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: 152]
فهذا أمرٌ صريح بالشكر، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يصرفه صارف. -
وقال سبحانه:
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]
فقرن شكر النعمة بالزيادة، وجعل كفرانها سببًا للعذاب. -
وقال عز وجل:
﴿وَاشْكُرْ لِلَّهِ إِن كُنتَ إِيَّاهُ تَعْبُدُ﴾ [البقرة: 172]
وهذا يدل على أن الشكر من مقومات التوحيد والعبادة الخالصة لله.
2. من السنة النبوية:
-
جاء في الصحيحين أن النبي ﷺ قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فقيل له: «يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟» قال:
«أفلا أكون عبدًا شكورًا؟»
وهذا يدل على أن الشكر مقام عالٍ ينبغي أن يسعى إليه المسلم، وأنه من أخلاق الأنبياء. -
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
«من أُعطي عطاءً فوجد فليُجزِ به، فإن لم يجد فليُثنِ، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر».
ثالثًا: أنواع الشكر في الإسلام
يتنوع شكر النعمة في الإسلام بحسب الجوارح التي تمارس هذا الشكر، ويمكن تصنيفه إلى ثلاثة أنواع رئيسة:
1. شكر القلب:
وهو أصل الشكر، ويتمثّل في شهود النعمة، والاعتراف بأنها من الله، والتواضع وعدم الغرور، وربطها بالمنعم لا بالمجهود البشري فقط.
2. شكر اللسان:
يكون بالثناء على الله، وحمده على نعمه، وتكرار ألفاظ الشكر مثل: “الحمد لله”، و”الشكر لله”، والدعاء بالبركة في النعمة.
3. شكر الجوارح:
يكون باستخدام النعمة في طاعة الله، لا في معصيته. فمن أُعطي مالًا فأنفقه في الخير، ومن أُعطي علمًا فعلّمه، ومن أُعطي صحة فاستعملها في العبادة، فقد شكر الله بجوارحه.
قال الحسن البصري:
“ليس الشكر أن يقول العبد: الحمد لله، إنما الشكر أن يستعمل النعمة في طاعة الله”.
رابعًا: مراتب الشكر
-
المرتبة العامة:
وهي شكر النعمة بعد حصولها، وهذا يشترك فيه معظم الناس. -
المرتبة الخاصة:
وهي شكر النعمة حال استخدامها، أي عند التمتع بها يشعر العبد بفضل الله عليه. -
المرتبة العليا:
وهي شكر النعمة حتى في البلاء، إذ يرى بعض العارفين أن الابتلاء نعمة تستوجب الشكر لأنها تطهر الذنوب، وتزيد الأجر، وترفع الدرجات.
خامسًا: أثر الشكر في حياة المسلم
1. زيادة النعم واستمرارها:
كما وعد الله في كتابه: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، وهذه سنة كونية في العلاقة بين النعمة والشكر.
2. الرضا والطمأنينة:
الشاكر يعيش مطمئنًا راضيًا، يرى نعم الله عليه في كل حال، فلا يجزع ولا يطمع، بل يقنع ويرضى.
3. النجاة من العذاب:
قال تعالى: ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، فمن شكر سلم من مقت الله وغضبه.
4. تحقيق عبودية الشكر:
وهي من أعلى مقامات الإيمان، وقد وصف الله بها أنبياءه، مثل إبراهيم عليه السلام في قوله:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ [النحل: 120-121]
سادسًا: نماذج من شكر الأنبياء والصالحين
1. النبي سليمان عليه السلام:
عندما رأى عرش بلقيس مستقراً بين يديه، قال:
﴿هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: 40]
2. النبي نوح عليه السلام:
قال تعالى عنه: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]
3. النبي محمد ﷺ:
كان يطيل قيام الليل شكرًا لله، رغم أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان لا يرى نعمة إلا نسبها إلى الله، ولم يكن يجحد معروف أحد.
سابعًا: وسائل تعين على الشكر
| الوسيلة | الشرح |
|---|---|
| التفكر في نعم الله | بالتأمل في النعم الصغيرة والكبيرة، المادية والمعنوية |
| تذكير النفس بعدم الاستحقاق | بأن كل نعمة هي فضل لا استحقاق، فيشعر العبد بالتواضع |
| مرافقة الشاكرين | فإن في صحبتهم حافزًا للتذكير والمنافسة في الطاعة |
| قراءة سير الأنبياء | للاقْتِداء في شكرهم وتحملهم للبلاء دون سخط |
| المواظبة على الأذكار | مثل “اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” |
| استعمال النعمة في الطاعة | وذلك باستغلال الوقت والمال والصحة والفراغ في طاعة الله |
ثامنًا: خطورة كفران النعمة
-
يُعدّ كفران النعم من أسباب زوالها، بل قد يكون من أسباب حلول النقمة، كما حصل للأمم السابقة. قال تعالى:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ [النحل: 112] -
ومن صور كفر النعمة: نسبتها إلى النفس (كما قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾)، أو استعمالها في المعصية، أو التبذير والإسراف، أو التفاخر والتكبر بها.
تاسعًا: علاقة الشكر بالإيمان
-
قرن الله بين الشكر والإيمان في مواضع كثيرة من القرآن، قال تعالى:
﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾، فالشكر لا ينفصل عن حقيقة الإيمان بالله. -
وقال النبي ﷺ:
«إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها» [رواه مسلم]
فمجرد الحمد بعد الطعام والشراب هو من دلائل الإيمان، ومصدر لرضا الله.
عاشرًا: الفرق بين الحمد والشكر
| الوجه | الحمد | الشكر |
|---|---|---|
| التعريف | الثناء على المحمود لكماله | الثناء على المنعم بسبب إحسانه |
| السبب | قد يكون لكمال الذات أو الصفات | لا يكون إلا على النعمة |
| الموضع | عام في السراء والضراء | غالبًا يكون عند حصول النعمة |
| الوسائل | باللسان فقط | يكون بالقلب واللسان والجوارح |
خاتمة
إن شكر النعم في الإسلام ليس فقط خلقًا محمودًا، بل هو فريضة وركن من أركان العبودية لله تعالى. من عرف الله حق المعرفة، وأدرك حجم نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى، أدرك وجوب شكره والاعتراف بفضله. إن حياة المسلم لا تكتمل إلا بشكرٍ دائمٍ يملأ القلب واللسان والعمل. فبالشكر تدوم النعم، وتُرفع الدرجات، ويكون العبد من خواص عباد الله الذين وصفهم بقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
المراجع:
-
ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين
-
تفسير ابن كثير، دار طيبة
