شعر بن فطيس النبطـي

شعر بن فطيس.. صدى البداوة في حضارة القصيدة النبطية

يشكل الشاعر محمد بن فطيس المري أحد أبرز الأسماء المعاصرة في الساحة الشعرية الخليجية، وخصوصًا في مجال الشعر النبطي، الذي يُعد الوعاء الثقافي الأصيل الذي يحمل سمات البداوة والعروبة في أنقى صورها. في كتابته الشعرية يتجلى مزيج نادر بين الفطرة الشعرية الصادقة والحس الفني المرهف، ويترجم في قصائده وجدان الإنسان الخليجي بكل ما يحمله من تقاليد وانفعالات وحنين. لقد شكّل ظهور بن فطيس محطة فارقة في تطور القصيدة النبطية، سواء من حيث الأسلوب أو المضمون أو المكانة الاجتماعية التي اكتسبها الشاعر نفسه خلال فترة قصيرة نسبياً.

النشأة والبيئة الشعرية

ولد محمد بن فطيس المري في دولة قطر، وينتمي إلى قبيلة المرة العريقة، التي تعد واحدة من أكثر القبائل الخليجية شهرة وامتداداً. وقد نشأ في بيئة قبلية محافظة، تجذر فيها الشعر النبطي كوسيلة للتعبير والتوثيق والتفاخر، ما جعله يحتك مبكرًا بعالم الشعراء، ويكتسب أدواته اللغوية والإيقاعية والفنية. ساعده انتماؤه لهذه البيئة أن يتشرب مبادئ الفروسية والكرم والوفاء، وكلها قيم تتكرر بقوة في قصائده، لتصبح من ركائز عالمه الشعري.

انطلاقة استثنائية عبر شاعر المليون

كانت الانطلاقة الكبرى لبن فطيس عبر برنامج “شاعر المليون”، الذي يُعد واحداً من أهم المنصات الإعلامية لدعم الشعراء النبطيين، حيث فاز بلقب الموسم الأول في عام 2007. مثّلت مشاركته في البرنامج منعطفاً مفصليًا، حيث قدم أداءً مميزًا استطاع من خلاله أن يرسخ اسمه في وجدان الجمهور الخليجي والعربي على حد سواء. وقد أثار إعجاب لجنة التحكيم والجمهور بتمكنه اللغوي العالي، وصوره الشعرية المدهشة، وقدرته على استحضار الموروث بأسلوب عصري ساحر، جعله يلقب بـ”شاعر الوطن”.

السمات الأسلوبية في شعره

من يقرأ شعر محمد بن فطيس يدرك أنه لا يكتب من فراغ، بل من خلفية ثقافية ولغوية ضاربة في عمق الصحراء والتاريخ. فهو يستخدم مفردات بدوية خالصة، تمتلئ بالحس الصحراوي والمشاهد المألوفة للبدو، مثل الكرم، الخيل، النخوة، الرمال، والعقال. لكنه لا يكتفي بنقل التراث، بل يعيد تشكيله بطريقة معاصرة تناسب الذائقة الحديثة. وقد تميز أسلوبه بعدة خصائص فنية:

• الصدق الشعوري: فشعره يعكس حالات وجدانية عميقة، بدءًا من الحب والحنين، وصولاً إلى الفخر والانتماء، ويُشعرك دائمًا بأنه يتحدث عن تجربة عاشها لا عن خيال شعري مفترض.

• الإيقاع الرشيق: يعرف كيف يختار بحوره الشعرية بدقة، ويُطوّع الوزن والقافية لخدمة المعنى دون أن يبدو متكلفاً.

• الرمزية الشعبية: يوظف رموزًا من البيئة الخليجية – كالصقر، النخلة، الخيمة – لتكون أدوات تعبير عن مشاعر أعمق، كالشوق أو الكبرياء أو العزلة.

• اللغة البيضاء: رغم جزالة ألفاظه، فإن شعره سهل الوصول، ويمكن للقارئ العادي أن يتفاعل معه دون الحاجة إلى شروحات أو تأويلات معقدة، وهذا جزء من سر شعبيته الجارفة.

المضامين في شعره

ينقسم شعر بن فطيس إلى مجموعة من الثيمات المركزية التي تشكل بنية القصيدة لديه، وهي غالباً ما تتكرر في دواوينه ومشاركاته المختلفة. ومن أبرز هذه المضامين:

1. الوطن والانتماء

يعد الوطن محورًا أساسيًا في شعر بن فطيس، وخصوصًا في قصائد كتبها لقطر والسعودية وبقية دول الخليج، وقد عرف عنه وطنيته الصادقة وغيرته على قضايا مجتمعه. وقد عبر عن الوطن ليس كمكان جغرافي فقط، بل كحالة شعورية وثقافية، تختزل الهوية والذاكرة والولاء.

2. الحب والحنين

تفيض قصائد الحب لدى بن فطيس بشيء من الحزن النبيل، وتغلب عليها نغمة الشوق والحرمان. لا يكتب عن الحب بمعناه السطحي، بل يتعامل معه كقضية وجودية وشعورية، وفي كثير من الأحيان يرسم الحب كفقد أبدي، أو لقاء مؤجل، أو ذكرى لا تُنسى.

3. الفخر والنسب

كابن للبادية، يعبر بن فطيس عن اعتزازه بأصله القبلي، ويستعرض في شعره مناقب قبيلته وتاريخها ومآثرها، دون أن يقع في فخ التفاخر الممجوج. بل يجعل من الفخر مدخلاً للحديث عن الشجاعة والشرف والعطاء والوفاء، كما يعزز هذه المضامين بشواهد من التاريخ والأساطير.

4. الحكمة والتأمل

تمتلك العديد من قصائده بعدًا فلسفيًا أو تأمليًا، حيث يقترب أحيانًا من “شعر الحكمة”، متناولاً مواضيع مثل الزمن، الغدر، الوفاء، الصبر، والمصير. وهذه المضامين تمنح شعره عمقًا دلاليًا يتجاوز اللحظة الشعرية المباشرة.

أبرز قصائده

من بين أشهر قصائد بن فطيس، التي لاقت رواجًا واسعًا وانتشارًا جماهيريًا في أرجاء الخليج العربي، نذكر:

• “يا كثر ما رددت”: قصيدة تحمل في طياتها الكثير من الألم النبيل والوجد، تعبر عن تجربة فراق مؤلمة.

• “غيابك علمني”: تعد من أكثر القصائد تداولًا في مواقع التواصل الاجتماعي، وتتميز بأسلوب رشيق وصور مؤثرة.

• “هذا أنا”: تمثل سيرة ذاتية شعرية، يكشف فيها بن فطيس عن جوانب من شخصيته وموقفه من الحياة والمجتمع.

الجدول التالي يوضح تصنيفًا لأبرز سمات شعر بن فطيس:

أثره على الساحة الشعرية

استطاع محمد بن فطيس أن يكرس لنفسه مكانة فريدة في الساحة الشعرية النبطية، وبات له حضور في كل المحافل والمهرجانات الكبرى في الخليج، مثل مهرجان الجنادرية، وفعاليات اليوم الوطني، وبرامج الشعر التلفزيونية. وكان له تأثير واضح على جيل جديد من الشعراء الذين تأثروا بلغته، وصوره، وطريقة إلقائه.

كما أن انتشار قصائده على المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي جعل من شعره مادة متداولة، يتغنى بها الجمهور في مناسبات متعددة، ويرددها الشباب كأنها تمثل صوتهم وهويتهم.

الشعر كهوية وامتداد للذات

إن تجربة بن فطيس الشعرية تمثل أكثر من مجرد كتابة للقصيدة النبطية، بل هي تمثيل حي لهوية ثقافية قائمة بذاتها. فالقصيدة في سياقه ليست مجرد حالة إبداعية، بل هي وثيقة اجتماعية وتاريخية، تختصر حياة كاملة من التقاليد والقيم. ولعل سر نجاحه الكبير يعود إلى الصدق العميق الذي يشعر به المتلقي حين يستمع أو يقرأ له، فهو لا يكتب ليرضي ذائقة النقاد، بل ليتواصل مع قلوب الناس وعقولهم على حد سواء.

الخاتمة

يمثل محمد بن فطيس علامة فارقة في الشعر النبطي المعاصر، ليس فقط بوصفه شاعرًا موهوبًا يمتلك أدواته الفنية، بل أيضًا كمثقف شعبي حافظ على هوية تراثه في زمن العولمة، ونجح في جعل الشعر وسيلة للربط بين الماضي والحاضر. لقد أعاد إلى القصيدة النبطية بريقها الشعبي دون أن يفقدها قيمتها الجمالية، وفرض احترامه كشاعر بقوة الكلمة لا بضجيج الإعلام، وكوْن صوته جاء من أعماق الصحراء، فقد حمل معه عبقها وصفاءها وصدقها الذي لا يزول.

المراجع:

• جريدة الرياض، “بن فطيس.. ظاهرة شعرية تستحق التأمل”، عدد 2008

• برنامج شاعر المليون – الموسم الأول – قناة أبو ظبي 2007