شعر أبو العتاهية عن الأم
يُعد أبو العتاهية من أشهر شعراء العصر العباسي، وهو شاعر ذو باع طويل في الأدب العربي، اشتهر بقوة شعره وجمال معانيه، وكان له العديد من الأبيات التي تلامس أعماق الروح. من بين الموضوعات التي تناولها في شعره، كان حب الأم وتقديرها أحد المواضيع المهمة التي لم تخلُ من اللمسات العاطفية الرقيقة التي تعكس تقديره العميق لهذا الكائن الكريم. رغم أن شعر أبو العتاهية في عمومه كان متنوعًا بين الفلسفة، والمدح، والهجاء، إلا أن هناك العديد من الأبيات التي تتغنى بالأم وتظهر مكانتها السامية في قلب الشاعر، ولعلَّ ذلك كان بسبب تأثيرات البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها.
مكانة الأم في شعر أبو العتاهية
إن مكانة الأم في شعر أبو العتاهية تمثل ركنًا أساسيًا من أركان شخصيته الشعرية، فالشاعر لم يتوانَ في تقديم صورة حية للأم في أبياته، حيث جسَّدها كرمز للحب، والتضحية، والحنان. وقد عبَّر عن ذلك بأسلوب بديع يخاطب فيه القلوب بصدق وعاطفة لا مثيل لها. في أحد أشهر أبياته عن الأم، يقول:
“أمِّي التي في القلبِ تبقى خَفِيَّةً
أمِّي التي في العينِ تنسابُ دُمُوعُهَا”
في هذه الأبيات، يبرز لنا أبو العتاهية العلاقة العاطفية القوية بين الشاعر وأمه. ففي هذه الصورة الشعرية، يعبر الشاعر عن أن الأم تتربع في قلبه، وأنها قريبة لدرجة أن دموعه تنساب كلما تذكرها. إنَّ هذا يعكس الحنين الشديد والمحبة غير المحدودة التي يكنُّها الشاعر للأم.
الحزن والندم على فراق الأم
من أبرز المواضيع التي تناولها أبو العتاهية في شعره حول الأم، هو الحزن العميق الذي يعتري قلبه بعد فراقها. يبدو أن هذا الفراق قد أثر في حياته بشكل عميق، فالشاعر عاش معاناة نفسية بسبب غياب الأم عن حياته. هذا الحزن العميق يظهر جليًا في كثير من أبياته التي تحكي عن الشوق والألم الذي يعانيه بعد فقدها. يقول أبو العتاهية:
“والأُمُّ أُمُّ النَّفْسِ وَالذَّاتِ، وَالْغُرْبَةِ أَمَّا تُفَجِّرُ قَلْبِي”
هنا، يعبر الشاعر عن كيف أن غياب الأم قد أثر في نفسه وحطم قلبه. يتحدث عن أن الأم تمثل الروح الحقيقية لحياته، وبغيابها يشعر بالغربة التي لا يمكن تحمّلها. إنه يذكر كيف أن فقدان الأم لا يقتصر على الغياب الجسدي فقط، بل يشمل أيضًا غياب الروح التي كانت تُغذي الحياة بالحياة ذاتها.
التضحية والمثابرة في حب الأم
في جزء آخر من شعره، يُظهِر أبو العتاهية تقديره للأم باعتبارها رمزًا للتضحية والمثابرة. كان يرى أن الأم هي الأكثر قدرة على العطاء والتضحية في سبيل الأبناء. قد يضحي الإنسان بالكثير من أجل أهدافه، لكن التضحية الكبرى هي التي تقوم بها الأم من أجل راحة أولادها ورفاهيتهم. يقول أبو العتاهية:
“أمِّي جَعلتْ لي مِنْ تَضْحِيَاتِهَا فَضَاءً
رَغمَ الألمِ صَمَتتْ، فَكانَ في عَيونِهَا حُبُّهَا”
تعبير الشاعر عن تضحية الأم لا ينفصل عن عمق الرابطة التي تجمع بين الأم وطفلها، حيث كان يرى في تلك التضحيات صورة لمشاعر الأمومة النبيلة. التضحية بالنسبة لأبو العتاهية لم تكن مجرد أفعال مادية، بل كانت تجسد صورة من الصمت الجميل الذي يصاحبها، فالأم في نظره تقدم دون أن تتكلم، وتناضل من أجل من تحب دون انتظار مكافأة أو شكر.
الأم كنموذج للقدوة والمثالية
إن نظرته للأم لم تقتصر على كونها مصدرًا للعطف والحنان فقط، بل أضفى عليها طابعًا مثاليًا يُحتذى به في جميع مجالات الحياة. يرى أبو العتاهية أن الأم هي مصدر الهداية والقدوة. في كثير من الأحيان، كان يُظهر في أشعاره كيف أن الأم هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، وهي المصدر الأول للإلهام الأخلاقي، وفي هذا المعنى يقول:
“أمِّي التي نَشَأتني، وأعطتني فَجَادَتني
فكانت الحياةُ جميلةً كالجَمالِ في عيونِها”
هنا يتحدث الشاعر عن كيف أن الأم كانت السبب في نمو شخصيته وتشكيل مبادئه. إن هذه الأبيات تحمل في طياتها رسالة ذات مغزى عميق حول الدور التربوي الذي تلعبه الأم في تشكيل أفراد المجتمع على أسس من الأخلاق والمثابرة.
الندم على الإهمال
من أبرز الجوانب الإنسانية التي جسَّدها أبو العتاهية في شعره عن الأم هو الندم على إهمالها في بعض اللحظات. حيث كان الشاعر يعترف بأنه قد يكون قد قصَّر في بعض الأحيان في تقديم الحب والرعاية لها كما ينبغي. يتضح هذا الندم من خلال الأبيات التي تعكس شعور الشاعر بالذنب تجاهها في مواقف معينة، يقول في أحد أبياته:
“أمِّي، لو لم أكنِ أُهْملُ في حياتِكِ،
ما كنتَ تُسْمِعينَ، لَكِنَّكِ نَجَحْتِ”
في هذه الأبيات، يُظهر أبو العتاهية ندمه العميق على أنه ربما لم يكن يُظهر الاهتمام الكامل في بعض فترات حياته، لكنه يقر بأن الأم، رغم هذا الإهمال، كانت دائمًا تجد الطرق لتوجيهه وإصلاحه.
الختام
في شعر أبي العتاهية، نجد صورًا متعددة للأم: من التضحية، إلى القدوة، إلى الندم على التقصير. كل هذه الأبعاد تبرز مكانة الأم في قلب الشاعر وفي وجدانه. إن شعر أبو العتاهية عن الأم لا يُعتبر مجرد كلام عابر، بل هو تأكيد على أن العلاقة بين الأم وطفلها لا تُضاهى بأي علاقة أخرى. في عالم يعجّ بالتغيرات والصراعات، يبقى حب الأم هو الأساس الذي يمدنا بالقوة والحياة، ويظل صوت الشاعر الأبيّ في نقل هذا الإحساس الأبدي الذي لا يتغير ولا يزول.
