شرح حديث “من رأى منكم منكرًا فليغيره”
إن الحديث الشريف: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” هو من الأحاديث الشهيرة التي وردت عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتعدّ من الأسس الهامة في بناء المجتمع المسلم الذي يعتني بالقيم والأخلاق الإسلامية. هذا الحديث يتناول مسؤولية المسلم تجاه المنكرات والمفاسد التي قد تحدث في المجتمع، ويحثّ على أن يسعى كل فرد نحو إصلاح هذه المنكرات وفقًا للقدرة المتاحة له.
في هذا المقال، سنستعرض شرح هذا الحديث الشريف من حيث معانيه، دلالاته، والتوجيهات التي يقدمها للمسلم في تعامله مع المنكرات، كما سنبين آراء العلماء في تفسيره ومدى تطبيقه في حياة المسلمين اليومية.
النص الكامل للحديث
ورد الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم في العديد من كتب الحديث، ومنها “صحيح مسلم”، حيث قال: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.”
شرح الحديث:
أولًا: “من رأى منكم منكرًا”
الكلمة “منكرًا” في اللغة تعني كل شيء غير مقبول، قبيح، أو مخالف لما هو معروف في الشرع أو العرف الاجتماعي السليم. والمنكر قد يكون في المجال الديني أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي. على سبيل المثال، يمكن أن يكون المنكر فسادًا في المال، ظلمًا في الحكم، أو حتى معصية ظاهرة مثل شرب الخمر أو الزنا.
إذن، الحديث لا يتحدث فقط عن المنكرات الدينية، بل يشمل أيضًا المنكرات الأخلاقية والاجتماعية التي تتعارض مع القيم الإنسانية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
ثانيًا: “فليغيره بيده”
هذه العبارة تشير إلى أول درجات الإصلاح التي ينبغي على المسلم أن يسلكها عندما يرى منكرًا. التغيير باليد يعني التدخل المباشر لإيقاف المنكر أو تغيير الوضع من خلال القوة البدنية أو الوسائل المادية، شريطة أن يكون ذلك في إطار الضوابط الشرعية. مثلًا، إذا كان شخصًا يتعدى على آخر بالضرب أو الظلم، وكان الشخص الذي يشاهد هذا المنكر في وضع يمكنه من التدخل بشكل مباشر وبوسائل مشروعة، فإنه يجب عليه أن يتدخل ليوقف هذا المنكر.
لكن، من الضروري أن نلاحظ أن التغيير باليد لا يعني الفوضى أو الاعتداء، بل يجب أن يتم في إطار القانون والعدالة الشرعية، ويجب أن يكون الشخص المتدخل قادرًا على وقف المنكر دون أن يسبب أذى أكبر.
ثالثًا: “فإن لم يستطع فبلسانه”
إذا عجز المسلم عن تغيير المنكر بيده أو كان التغيير باليد أمرًا صعبًا أو يترتب عليه أذى، فإنه ينتقل إلى الوسيلة الثانية، وهي التغيير باللسان. يعني ذلك أن المسلم عليه أن يتحدث مع مرتكب المنكر بأسلوب مؤثر وداعٍ للإصلاح، سواء كان ذلك بنصح، أو تحذير، أو تعليم.
تغيير المنكر باللسان يشمل إلقاء المواعظ، الدعوة إلى الله، وإرشاد الآخرين إلى الطريق المستقيم، ولكن في حدود الأدب والاحترام. في هذا السياق، يتعين على المسلم أن يكون متزنًا في طريقة تقديم النصيحة، بحيث لا يؤدي الأمر إلى زيادة الفتنة أو تعقيد الأمور.
رابعًا: “فإن لم يستطع فبقلبه”
في حال لم يستطع المسلم تغيير المنكر بيده أو بلسانه، فإن عليه أن يغيره في قلبه. وهذه هي أدنى درجات التغيير، لكنها مع ذلك تحمل أهمية عظيمة. تغيير المنكر بالقلب يعني أن المسلم يجب أن يكره المنكر ويشعر بالرفض التام له في قلبه، ولا يقبله أو يوافق عليه، بل يظل يشعر بالاستنكار والابتعاد عنه.
وقد فُسر هذا الجزء من الحديث على أنه إذا كانت الظروف تمنع الإنسان من التدخل بشكل مباشر أو حتى بالكلام (مثل الخوف على نفسه أو على غيره، أو تعقيد الوضع)، فإن أقل ما يمكن أن يفعله هو أن يظل مخلصًا في قلبه في رفض المنكر.
أهمية الحديث في بناء المجتمع المسلم
هذا الحديث يحمل في طياته مبادئ وقيمًا تربوية عظيمة تساعد في بناء مجتمع صحي ومتعاون قائم على المبدأ الإسلامي للعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويتضح من هذا الحديث أن المسؤولية تجاه المجتمع لا تقتصر على الفرد فقط، بل يجب أن يسهم كل فرد في الحفاظ على القيم والمبادئ الإسلامية التي تعزز الأمن الاجتماعي.
-
تحقيق العدالة الاجتماعية:
من خلال تصحيح المنكرات في المجتمع، يتم تحقيق العدالة الاجتماعية التي تضمن حقوق الأفراد وتحفظ كرامتهم. فكل منكر، سواء كان مرتبطًا بالحقوق المالية أو الأخلاقية أو الدينية، يساهم في زعزعة استقرار المجتمع. -
الوقاية من الفساد:
الحديث يوضح ضرورة الوقاية من الفساد الذي ينتشر في المجتمع، سواء كان فسادًا أخلاقيًا أو سياسيًا. التغيير بالقلب لا يقل أهمية، لأن الإنسان عندما يرفض المنكر في قلبه، فإنه يساهم في منع انتشاره بين الناس. -
تعزيز التعاون بين المسلمين:
من خلال التعاون في تغيير المنكرات، يبني المسلمون مجتمعًا منسجمًا يتعاون فيه الأفراد لإصلاح بعضهم البعض. وهذا التعاون يعزز من مفهوم “الأمة الإسلامية” التي تقوم على التكاتف والتعاون من أجل الخير والصلاح.
آراء العلماء في الحديث
اختلف العلماء في بعض جوانب هذا الحديث، مثل تحديد متى يمكن أن يُتخذ التدخل بالقوة أو عندما يكون التغيير باللسان هو الأفضل.
-
التغيير بالقوة: بعض العلماء يذهبون إلى أنه من غير المستحب أو المسموح التدخل بالقوة إلا إذا كانت الظروف تستدعي ذلك، مثل حماية النفس أو المال أو العرض، في حين يرى آخرون أنه يجب أن يكون التدخل بالقوة محدودًا جدًا ويخضع لضوابط خاصة.
-
التغيير باللسان: الكثير من العلماء يرون أن التغيير باللسان هو الطريق الأمثل في الكثير من الحالات، خاصة عندما يتعلق الأمر بإصلاح الأخطاء الدينية أو الاجتماعية التي يمكن تجنبها بالحديث والنصح.
-
التغيير بالقلب: يرى علماء آخرون أن التغيير بالقلب هو الأساس، وأدنى درجة من درجات النهي عن المنكر. هذه الرؤية تبرز أهمية أن يكون المسلم صادقًا مع نفسه وأن يظل متمسكًا بالقيم والمبادئ، حتى إذا لم يستطع التدخل الفعلي.
الخاتمة:
حديث “من رأى منكم منكرًا فليغيره” يضع أمام المسلم مسؤولية كبيرة تجاه مجتمعه، حيث يجعله شريكًا في صناعة التغيير والإصلاح. إنه يدعونا إلى أن نكون أكثر يقظة تجاه المنكرات التي تحيط بنا، وأن نتحمل جزءًا من المسؤولية في مكافحة هذه المنكرات بطرق مختلفة، تبدأ من التغيير باليد وتصل إلى التغيير بالقلب. هذه المسؤولية لا تقتصر على نوع واحد من المنكرات، بل تشمل كل ما يتعارض مع القيم الأخلاقية والإسلامية في المجتمع.
