شرح حديث إذا خاصم فجر

شرح حديث: “إذا خاصم فجر” – تحليل علمي وشرعي مستفيض

يُعد الحديث الشريف “إذا خاصم فجر” من الأحاديث النبوية الجامعة التي تبيّن خصال النفاق وتُظهر فساد الأخلاق، وهو جزء من حديث أطول أورده الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، قال النبي ﷺ: “آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”، وفي رواية لمسلم: “وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر”. تعتبر هذه الرواية إضافة توضيحية توضح ملامح الشخصية المنافقة وتفاصيل فسادها الأخلاقي.

هذا المقال يقدم تحليلاً عميقاً لهذا الجزء من الحديث الشريف، مركزاً على دلالاته اللغوية والشرعية والاجتماعية، وتأثيره في السلوك الفردي والمجتمعي، مع بيان ما يقصده الحديث بـ”الخصومة” و”الفجور” في هذا السياق، وتأصيل ذلك من خلال مصادر الحديث واللغة والفقه.

أولًا: تعريف الحديث ومصدره

يروي هذا الحديث الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء في صحيح مسلم ضمن الروايات التي تحدد علامات المنافق. الحديث بتمامه في صحيح مسلم:

“أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.”

رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق.

ثانيًا: التحليل اللغوي للفظ “إذا خاصم فجر”

• الخصومة في اللغة: مصدر “خاصم”، وهي المنازعة والمجادلة في أمرٍ ما، وقد تكون في أمور دنيوية أو دينية، وهي بطبيعتها موقف يتطلب ضبط النفس والعدل والاحتكام للحق.

• فَجَر: من “الفجور”، وهو الميل عن طريق الحق، ويشمل الكذب والتعدي والظلم والتجاوز في القول أو الفعل. يقال: “فجر في خصومته” إذا تجاوز الحد، وكذب، وبهت، واعتدى، واستباح المحرمات، وتجرأ على الأعراض والحقوق.

والفجور في هذا السياق ليس فقط الكذب، بل يشمل كل ألوان الباطل التي يُرتكبها الإنسان في سبيل الانتصار لنفسه على حساب الحق.

ثالثًا: المعنى الإجمالي للحديث

الحديث يُظهر سلوك المنافق إذا دخل في خصومة، فهو لا يلتزم حدود العدل والحق، بل يطلق العنان للسانه وأفعاله، فيظلم، ويكذب، ويشتم، ويبهت، ولا يتورع عن اتهام خصمه بما ليس فيه. وهذا دليل على فساد في القلب وغيابٍ لتقوى الله. فالمؤمن الحق يتجنب الظلم في الخصومة، أما المنافق فحجته الظلم، وأسلوبه الفجور، وهدفه الانتصار للنفس لا للحق.

رابعًا: العلاقة بين النفاق والفجور في الخصومة

المنافق كما صوّره القرآن والسنة، يظهر خلاف ما يبطن، فهو ليس صادق النية ولا مستقيم الطوية. إذا دخل في خصومة أظهر خُبث طويته، فانكشف معدنه الرديء، وعبر عن ذلك بالفجور، وهو سلوك يُعبّر عن فساد عميق في القلب. ولذلك، فإن الفجور في الخصومة ليس مجرد خطأ سلوكي، بل هو دليل على انحراف عقدي وأخلاقي خطير.

قال الإمام النووي: “معنى الفجور في الخصومة أن يُخرج الخصومة عن وجهها، بأن يُكذب، أو يُظهر ما لا يُظهره لو لم يكن خصمه، أو يُجمّل نفسه ويقبح خصمه، أو غير ذلك من الأفعال القبيحة.”

خامسًا: الفجور في الخصومة في ضوء القرآن الكريم

يقول الله تعالى:

“ولا تجادل عن الذين يَخْتانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا” [النساء: 107].

ويقول عز وجل:

“وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد” [البقرة: 205].

هذه الآيات تُظهر كيف يكون فساد المنافق، ومن ضمن هذا الفساد خصومته التي يسعى فيها إلى الإفساد، لا إلى الوصول للحق.

سادسًا: الفجور في الخصومة في ضوء الواقع المعاصر

في حياتنا اليومية، نجد مظاهر عديدة للفجور في الخصومة، منها:

هذه الصور من الفجور تُظهر لنا مدى عمق التحذير النبوي، وكيف أن هذه الخصلة تمثل قنبلة أخلاقية تهدم العلاقات الأسرية والمجتمعية، وتفسد قلوب الناس.

سابعًا: آثار الفجور في الخصومة

1. ضياع العدل: لا يمكن أن يتحقق العدل في بيئة يتفشى فيها الفجور في الخصومة.

2. تفكك العلاقات: العداوة والبغضاء تتولد حين يُعامل الناس بعضهم بالكذب والافتراء.

3. انتشار الفتن: المجتمع الذي تسود فيه هذه الخصال يصبح مرتعًا للفتن والفساد.

4. سقوط المروءة: يفقد الإنسان احترامه ومكانته عندما يُعرف بالفجور في خصومته.

5. العقاب الإلهي: لأن الفجور في الخصومة ظلم، والله لا يرضى بالظلم ولا يسامح فيه إلا إذا سامح المظلوم.

ثامنًا: ضوابط الشرع في الخصومة

الإسلام لم ينهَ عن الخصومة في ذاتها، بل أمر بضبطها ضمن ضوابط شرعية منها:

• التثبت من المعلومات: قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا…” [الحجرات: 6].

• عدم الكذب: قال النبي ﷺ: “ويلٌ للذي يُحدث فيكذب ليُضحك به القوم، ويلٌ له، ثم ويلٌ له” (رواه أحمد).

• الاحتكام للعدل: ولو على النفس، كما في قوله تعالى: “كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم” [النساء: 135].

• الإعراض عن الجاهلين: “وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” [الفرقان: 63].

تاسعًا: موقف السلف من الفجور في الخصومة

• قال ابن المبارك: “إذا غلب الرجل خصمه في المناظرة فليجعل له فضل الحلم”.

• وقال الحسن البصري: “كانوا يقولون: لا تقطع أخاك على ارتياب، ولا تهجر دون استعتاب”.

• وذُكر عن الإمام الشافعي أنه قال: “ما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يُظهر الله الحق على لسانه دوني”.

هذه المواقف تُجسد الأخلاق النبوية والفقهية في الخصومة، وتعكس عمق الإيمان الذي يردع النفس عن الفجور والعدوان.

عاشرًا: العلاج العملي لهذه الخصلة

1. مراقبة النفس: استحضار مراقبة الله في كل موقف، وخاصة في لحظات الغضب.

2. تعلم أدب الحوار: القراءة في سيرة النبي ﷺ وصحابته الكرام لمعرفة كيف كانوا يتحاورون ويختلفون دون فجور.

3. الصدق والعدل: الالتزام بالصدق حتى في المواقف الحرجة، والعدل مع النفس والغير.

4. طلب الإصلاح لا الانتصار: جعل الغاية من الخصومة إظهار الحق لا الانتصار للنفس.

5. الاستغفار والتوبة: لأن الفجور في الخصومة معصية عظيمة، فلا بد من التوبة عنها.

خاتمة

حديث “إذا خاصم فجر” ليس مجرد وصف لحالة نفاق، بل هو معيار حاسم لتمييز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق. خصومة المسلم لا يجب أن تكون معركة، بل سعي لتحقيق الحق والعدل دون تجاوز. هذا الحديث يُحذر بصرامة من التلاعب بالحقائق والتعدي في الخصومات، ويُرسّخ أدبًا رفيعًا في التعامل مع الخلافات. إن التزام المسلم بهذه المعايير ليس فقط سلوكًا فرديًا محمودًا، بل هو أساس لحماية المجتمع من الانهيار الأخلاقي.

المراجع:

1. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث: “أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا…”

2. النووي، “شرح صحيح مسلم”، المجلد 2، باب خصال المنافق.