شجرة الدر: سلطانة مصر القوية

شجرة الدر: امرأة هزت عرش مصر وأعادت صياغة التاريخ

في زمنٍ كان فيه الحُكم حكرًا على الرجال، لم تكن شجرة الدر مجرّد امرأة استطاعت أن تتصدر مشهد السياسة في واحد من أكثر العصور اضطرابًا في تاريخ العالم الإسلامي، بل كانت شخصية تاريخية مثيرة للجدل، لعبت دورًا مفصليًا في الانتقال من الدولة الأيوبية إلى الدولة المملوكية. جمع مسارها بين القوة السياسية، والذكاء الاستراتيجي، والحنكة العسكرية، والمكر السياسي، حتى أصبحت رمزًا استثنائيًا للمرأة التي تخطت القيود الاجتماعية وأسست صفحة جديدة في تاريخ مصر والشرق الإسلامي.

النشأة والخلفية

ولدت شجرة الدر في القرن الثالث عشر الميلادي، ويُرجّح أنها كانت من أصل تركي أو أرمني. لم يُعرف اسمها الحقيقي على وجه اليقين، وقد أُطلق عليها اسم “شجرة الدر” كنوع من التقدير أو كناية عن جمالها الفائق أو لُطفها. كانت جارية من الجواري الجميلات المتعلمات، وبيعت في أسواق العبيد، ثم أُهديت أو بيعت إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، أحد أبناء السلطان الكامل الأيوبي.

مع مرور الوقت، لم تعد شجرة الدر مجرد جارية بل أصبحت محظية مفضلة لدى الملك الصالح، وتمكنَت بفضل ذكائها وجاذبيتها وشخصيتها القوية من أن تتزوج به، لتصبح لاحقًا شريكة حقيقية له في إدارة الدولة. وأثبتت أنها أكثر من مجرد امرأة في القصر؛ كانت العقل المدبر خلف العديد من التحركات السياسية أثناء حياة زوجها وبعد وفاته.

دورها السياسي أثناء حكم الصالح نجم الدين

لم يكن للملك الصالح نجم الدين وقت طويل في الحكم قبل أن تدخل مصر في أزمة حادة بسبب الحملة الصليبية السابعة بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع، الذي نزل بجيوشه في دمياط عام 1249م. في هذا التوقيت الحرج، كان الملك الصالح يعاني من المرض الشديد، ولم يكن قادرًا على إدارة شؤون الحكم بنفسه، فانتهزت شجرة الدر الفرصة لتثبت قدراتها السياسية، وتولت بنفسها إدارة الدولة من خلف الستار، وبدأت تُصدر الأوامر وتوقع المراسيم باسم زوجها.

كانت هذه المرحلة بمثابة اختبار حقيقي لكفاءتها السياسية، وقد تمكنت من الحفاظ على تماسك الدولة وتوجيه الجيوش المملوكية لصد الحملة الصليبية، وبذلك اكتسبت احترام القادة والعسكريين المماليك، الذين كانوا يشكلون القوة الفعلية في الدولة آنذاك.

وفاة الملك الصالح وتولي شجرة الدر السلطة

في ديسمبر 1249م، توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب في الوقت الذي كانت فيه الجيوش الصليبية تهدد مدينة المنصورة. وكان إعلان وفاته في هذا التوقيت كارثة سياسية قد تزعزع الجبهة الداخلية، فقررت شجرة الدر إخفاء خبر موته عن الجميع، ووضعت خطة بارعة لإدارة البلاد دون أن يعرف أحد بالحقيقة.

استمرت في إصدار الأوامر والتوقيعات باسمه، واستعانت بوزير الملك الصالح، فخر الدين يوسف، في إدارة شؤون البلاد، كما قامت بنقل جثمان الملك إلى قلعة الروضة، واستدعت ابنه توران شاه من بلاد ما وراء النهر ليتسلم الحكم. وقد لعبت دورًا حاسمًا في معركة المنصورة عام 1250م التي انتهت بهزيمة الصليبيين وأسر الملك لويس التاسع، وهو انتصار ضخم أعاد لمصر هيبتها في العالم الإسلامي.

نهاية الدولة الأيوبية وصعود المماليك

حين قدم توران شاه لتولي الحكم، كان موقفه هشًّا منذ البداية؛ فالعسكريون المماليك كانوا يدينون بالولاء لشجرة الدر أكثر مما يدينون له. أهان توران شاه شجرة الدر وتعامل معها بازدراء، فقررت المماليك التخلص منه. وقُتل توران شاه على يد المماليك في مشهد دموي داخل قصره على شاطئ النيل في فارسكور.

أدى هذا الحدث إلى نهاية الدولة الأيوبية في مصر، ووجدت البلاد نفسها بدون سلطان شرعي. وفي هذا الفراغ السياسي، اقترح قادة المماليك تعيين شجرة الدر سلطانة على مصر، فوافقت الأغلبية وبدأت أول تجربة حكم نسائي رسمي في تاريخ الدولة الإسلامية.

سلطانة مصر: سابقة سياسية فريدة

في مايو 1250م، جلست شجرة الدر على عرش مصر رسميًا، وأعلنت نفسها “السلطانة شجرة الدر، أم خليل”، وتم ضرب السكة باسمها، وأُلحقت خطب الجمعة بالدعاء لها بصفتها الحاكمة، وهي سابقة تاريخية غير مسبوقة في العالم الإسلامي.

إلا أن حكمها لم يستمر طويلًا، حيث واجهت معارضة شرسة من قبل القوى الدينية والسياسية، خاصة الخليفة العباسي في بغداد الذي أعلن رفضه القاطع لتولي امرأة الخلافة، وأرسل رسالة إلى مصر يقول فيها: “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسيّر إليكم من يصلح للحكم”.

ضغطت القوى الداخلية والخارجية على المماليك، واضطروا في النهاية لعزل شجرة الدر من الحكم، وزُوّجت من عز الدين أيبك، أحد قادة المماليك البحريين، وتنازلت له عن العرش شكليًا مقابل أن تستمر في السيطرة من خلف الستار.

الصراع مع عز الدين أيبك ونهايتها التراجيدية

بعد زواجها من أيبك، ظنت شجرة الدر أنها ستكون قادرة على توجيهه سياسيًا، إلا أن طموح أيبك بدأ يتصاعد، وقرر التخلص منها سياسيًا بعد أن استقر في الحكم. فعزل مستشاريها، وبدأ يخطط للزواج من ابنة أحد أمراء الشام لتقوية موقعه.

حين علمت شجرة الدر بخطته، جن جنونها، وقررت التخلص منه قبل أن يتخلص منها، فأمرت بقتله سرًا داخل القلعة عام 1257م. لكنها لم تحسب تبعات فعلتها، فقد أثار ذلك غضب القادة والعسكريين المماليك، فتم القبض عليها وسُلمت إلى أم علي، زوجة أيبك الأولى، التي أمرت بقتلها ضربًا بالقباقيب حتى الموت.

الأثر التاريخي لشجرة الدر

رغم أن فترة حكم شجرة الدر كانت قصيرة نسبيًا، فإن أثرها التاريخي والسياسي كبير للغاية. فقد لعبت دورًا رئيسيًا في الانتقال من الدولة الأيوبية إلى الدولة المملوكية، وأسست فعليًا حكم المماليك في مصر. كما أظهرت كيف يمكن للمرأة، في ظروف استثنائية، أن تتخطى الأعراف الاجتماعية لتتبوأ منصبًا سياديًا رفيعًا، وتدير دولة في لحظة حرجة من تاريخها.

تحليل دور شجرة الدر في التحول السياسي في مصر

تمثل شجرة الدر ظاهرة استثنائية في التاريخ الإسلامي الوسيط؛ فقد جمعت بين القدرة على التكيف مع التحولات السياسية الحادة، واستخدام أدوات السلطة بشكل غير تقليدي. كما أنها تُعد نموذجًا واضحًا لدور المرأة في الحياة السياسية في عصور كان يُنظر إليها فيها كمجرد تابع أو تابع ضعيف.

من خلال قراراتها السياسية، وتحركاتها العسكرية غير المباشرة، ومهاراتها في إدارة شؤون الدولة، أثبتت أن العقل السياسي ليس حكرًا على جنس معين، بل هو وظيفة مرتبطة بالقدرات الذاتية. لقد تحدّت شجرة الدر القوى الذكورية والدينية والعشائرية، ونجحت في أن تخلق واقعًا سياسيًا جديدًا، ولو لفترة قصيرة، لكنها كانت كافية لتغيير مسار التاريخ.

الدور المحوري في تأسيس دولة المماليك

شجرة الدر كانت الرابط الأساسي بين نهاية الدولة الأيوبية وبداية الدولة المملوكية، إذ أن قبول المماليك لها كسلطانة ثم لاحقًا كزوجة لأيبك منحهم الشرعية السياسية في تولي الحكم. ولولا شجاعتها وحنكتها في إدارة الأزمة بعد وفاة الصالح، ربما كانت الحملة الصليبية السابعة قد نجحت في اختراق مصر وتغيير مسار التاريخ الإسلامي كليًا.

الجدول التالي يوضح أهم مراحل حياة شجرة الدر: