الشريف الرضي: سيرةٌ أدبيةٌ وفكريةٌ في رحاب العصر العباسي

يُعَدُّ الشَّريف الرَّضي (359 هـ – 406 هـ) واحدًا من أبرز الأعلام في تاريخ الأدب العربي خلال العصر العباسي، وقد تميَّز بشاعريَّةٍ فائقةٍ ونبوغٍ علميٍّ ملحوظ، علاوةً على مكانته الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة المرموقة. عُرِف بالشَّاعر العلويّ، والإمام في اللغة، والنَّقيب الذي جمع بين الإمامة الدينيَّة والعلميَّة والورع والتقوى في آنٍ واحد. تمثِّل شخصية الشَّريف الرضي نموذجًا حيًّا للمتعدِّد الثقافيّ؛ فقد درس النحو واللغة والفقه والكلام والتفسير، وأبدع في الشِّعر بأنماطه المتعدِّدة، ولا سيما الرِّثاء الذي وُصِف بأنَّه قد بلغ الغاية في التأثير والنّضج الفنّي.

هذه الدِّراسة المطوَّلة تتناول حياة الشَّريف الرَّضي منذ ولادته ونشأته في بغداد، مرورًا بما عاناه من ظروفٍ سياسيَّةٍ معقَّدةٍ إبَّان العصر العباسيّ والبويهيّ، وصولًا إلى إسهاماته الأدبيَّة اللافتة في تدوين التُّراث الإسلاميّ، ومنها جمعه لكتاب نهج البلاغة. وستُسلِّط الضَّوء على مقوِّمات شخصيَّته الأدبيَّة والفكريَّة وعلاقة ذلك بتجربته الشِّعريَّة، وبخاصَّة فنّ الرِّثاء. كذلك تتناول المقالة المظاهر الاجتماعيَّة والفكريَّة للتَّشيّع في شعره، ونظرته السِّياسيَّة والاعتباريَّة للعصر الذي عاش فيه، إضافةً إلى دراسة جوانب من لغته الشِّعريَّة وأسلوبه البلاغيِّ.

يُقسَّم هذا البحث إلى عدَّة أقسامٍ رئيسةٍ تندرج تحتها مباحث فرعيَّة، بغية الإحاطة الشاملة بشخصيَّة الشَّريف الرَّضي وأثره في الحركة الأدبيَّة والفكريَّة في العصر العباسي:

1. حياة الشَّريف الرَّضي ونشأته
2. مكوِّنات البيئة الفكريَّة والسِّياسيَّة في عصره
3. روافد ثقافة الشَّريف الرَّضي وأشهر أساتذته
4. إنجازاته العلميَّة والأدبيَّة
   • أ) جمعه لنهج البلاغة وتحقيقه
   • ب) دواوينه الشِّعريَّة وأغراضه
   • ج) مراسلاته وكتبه النثريَّة
5. فن الرِّثاء في شعر الشَّريف الرَّضي
   • أ) خصائص الرِّثاء وأبعاده الدِّينيَّة والاجتماعيَّة
   • ب) رثاء الشَّريف الرَّضي لأهله وأصحابه
   • ج) رثاء أهل البيت (ع) والبعد العقائديّ
6. الجانب السِّياسيّ في شعره: أشواق الإمارة والخلافة
7. اللغة والأسلوب في شِعر الشَّريف الرَّضي
8. الخاتمة والنتائج
9. المراجع والمصادر

أوّلًا: حياة الشَّريف الرَّضي ونشأته

وُلِدَ الشَّريف الرَّضي في بغداد سنة 359 هـ (969 م)، في أسرةٍ عريقةٍ تعود جذورها إلى الإمام موسى الكاظم (ع)، فوالده الحُسين بن موسى صاحب الحسب الرفيع، وأمُّه فاطمة بنت الحُسين، تنحدر من سلالةٍ علويَّةٍ شريفةٍ كذلك. بهذا الانتساب النَّبيل حاز الرَّضي مكانةً مرموقةً في المجتمع العباسيّ والبويهيّ؛ إذ شغل والده منصب نقابة الطالبيّين في عدَّة دوراتٍ، فضلًا عن إحراز أسرته وزنًا سياسيًّا ومادّيًّا كبيرًا في تلك الفترة.

نشأ الرَّضي في كنف والديه وأخيه الأكبر الشَّريف المرتضى (ت 436 هـ) وشقيقتيه (زينب وخديجة)، ولا سيَّما أنَّ الأسرة عُرِفت بعلمها وورعها وتبحُّرها في المجالات الفقهيَّة. أتمَّ الرَّضي دراسته الأولى في بغداد على يد كبار العلماء، فتعلَّم القراءة والكتابة ومبادئ التّفقُّه في مرحلةٍ مبكرةٍ جدًّا، بل يُروى أنَّه بدأ بقول الشِّعر في العاشرة من عمره. اشتدَّ عوده الأدبيُّ والعلميُّ حين اتَّصل بابن جِنِّي (ت 392 هـ) وأبي سعيد السِّيرافي وأبي علي الفارسي، ثمَّ لازم الشيخ المفيد (ت 413 هـ) فصار من أبرز تلامذته في الفقه الإماميّ والكلام.

اتَّصف الرَّضي بالأخلاق الرفيعة وقوَّة الشَّخصيَّة ورحابة الصَّدر، وأُشير إليه بالبنان في المجالس العلميَّة والديوانات الشِّعريَّة. ساعده انتماؤه الرفيع اجتماعيًّا على الانفتاح على خلفاء بني العبَّاس وبني بويه، فنال مراتب عالية في الدَّولة؛ إذ ولي نقابة الطالبيين، والنَّظر في المظالم، وإمارة الحجّ في مرحلةٍ مبكرةٍ من عمره (380 هـ)، ما أتاح له فرصة ممارسة الدَّور التَّنفيذيّ والشَّرعيّ والاجتماعيّ في آنٍ واحدٍ.

وقد وصفه المؤرِّخون بأنَّه ذو رؤى سياسيَّة وطموحاتٍ عالية، لعلَّها بلغت حَدَّ الرغبة في الخلافة، وهذا ما بثَّته قصائده الدِّينيَّة والسِّياسيَّة التي أشار فيها إلى تفوُّقه بالورع والعلم على الحكَّام العباسيّين أنفسهم. وكان لتقلُّب الأيَّام والدُّول أثرٌ بالغٌ في حياة الرَّضي، أدَّى به مرارًا إلى الشَّكوى من الزَّمان وعواديه وخيانات الحاسدين ونكران الجميل.

ثانيًا: مكوِّنات البيئة الفكريَّة والسِّياسيَّة في عصره

عاش الشَّريف الرَّضي في القرن الرَّابع الهجريّ ومطلع الخامس الهجري، وهي فترةٌ شهدت اضطرابًا سياسيًّا كبيرًا ناتجًا عن تراجع سلطة الخلافة العباسيَّة ووقوعها تحت هيمنة الدَّولة البويهيَّة الفارسيَّة الأصل. وبجانب تلك الاضطرابات، كانت تلك المرحلة أيضًا زمن ازدهارٍ علميٍّ وأدبيٍّ؛ إذ تقدَّم النَّحو واللغة بفضل جهود نحاةٍ كبارٍ كابن جنِّي وأبي علي الفارسي وأبي سعيد السِّيرافي. كما ازدهرت النَّشاطات الفقهيَّة والكلاميَّة، حيث تصاعد نجم المعتزلة والأشاعرة والإماميَّة والزيديَّة كلٌّ في بيئته الخاصَّة.

وقد سادت أجواء من الحوار الفكريّ والجدل العقديّ بين مختلف الفرق الإسلاميَّة. ولم يكن الشَّريف الرَّضي ببعيدٍ عن هذا الحراك؛ فهو من كبار أئمَّة الإماميَّة، تلقَّى تعاليمه على يد الشيخ المفيد، وكانت له رغبةٌ صريحةٌ في بيان مظلوميَّة أهل البيت (ع) والدِّفاع عن حقِّهم التَّاريخيّ. في الوقت نفسه، حمل لواء السِّلم وعدم الدخول في صراعاتٍ دمويَّةٍ، وإن كانت بعض قصائده تشير إلى نزوعٍ سياسيٍّ واضحٍ تجاه آل البيت.

على الصَّعيد الاجتماعيّ، اتَّسمت بغداد بتعدُّدها العرقيِّ والمذهبيِّ؛ إذ انتشرت المدارس الدِّينيَّة والمجالس الأدبيَّة والمكتبات التي ازدهرت بحركة التَّرجمة والنَّقل والتَّأليف. وكانت الحياة الأدبيَّة في ذلك العصر متوهِّجةً بالأسماء اللامعة، مثل المتنبِّي وأبي العلاء المعرِّي والصَّاحب بن عبّاد وأبي منصور الثَّعَالِبي؛ ما جعل الشَّريف الرَّضي أمام تحدٍّ كبيرٍ لإثبات نفسه ومكانته بين شعراء عصره. وبالفعل، أثنى عليه النُّقادُ والمؤرِّخون ثناءً جعل بعضهم يقول إنَّه أشعر الطالبيِّين، بل وأشعر قريشٍ كلِّها.

ثالثًا: روافد ثقافة الشَّريف الرَّضي وأشهر أساتذته

1. التَّكوين اللغويُّ والنَّحويُّ

تتلمذ الشَّريف الرَّضي في اللغة على أيدي كبار أئمَّة النَّحو واللُّغة في عصره، أبرزهم ابن جنِّي (ت 392 هـ) الذي يُعَدُّ من أعمدة الدِّراسات اللغويَّة والنَّحويَّة، وهو شارحُ ديوان المتنبِّي، وذو باعٍ طويلٍ في التَّأليف اللغويِّ (كالخصائص وغيرها). ويُروى أنَّ ابن جنِّي شرح إحدى قصائد الرَّضي لما فيها من جودة الصِّياغة وطرافة الأسلوب. كما أخذ الرَّضي شيئًا من علم النَّحو عن أبي علي الفارسي (ت 377 هـ) المعروف بدقَّة التَّحليل النَّحويِّ وصعوبة مسائله.

هذا المزيج بين علم ابن جنِّي وأبي علي الفارسي وأبي سعيد السِّيرافي أكسب الشَّريف الرَّضي قدرةً على فهم دقائق اللُّغة وأصول التَّراكيب، ما أتاح له أن يصوغ شعرًا بالغ القوَّة في ألفاظه ومعانيه، وأن يتَّسم بنمطٍ خاصٍّ يجمع بين الجزالة والرِّقَّة في آنٍ واحدٍ، وبين الشَّواهد القرآنيَّة والأساليب البليغة.

2. التكوين الفقهي والكلامي

أخذ الرَّضي جانبًا كبيرًا من الفقه الشِّيعي الإمامي وعلم الكلام على يد الشيخ المفيد (336 هـ – 413 هـ)، وهو من أبرع فقهاء الشيعة في العصر العباسي. تميَّز المفيد بعمقه الكلاميِّ وقدرته على استنباط الأحكام واستيعاب المسائل المذهبيَّة التي كانت محل جدلٍ كبيرٍ في ذلك الزمن. وقد انعكس تكوين الشَّريف الرَّضي الكلاميّ والعقديّ في أشعاره، إذ تناول بثقةٍ مسائل الإمامة وشرعيَّة آل البيت (ع) واحتجَّ لهم تاريخيًّا ودينيًّا، سواءٌ في مدائحه أم في رثائه.

كذلك كان الرَّضي قارئًا نهمًا لكتب المعتزلة والأشاعرة والزيديَّة، يُحلِّل الآراءَ ويناقشها، وإن انتهى إلى ترسيخ المنهج الإماميِّ في النِّهاية. وما زاد من تكوينه الرُّوحيِّ اتصالُه بالتُّراث القرآني والحديثي، الأمر الذي دفعه إلى تأليف مجاز القرآن والمجازات النبوية، وهي كتبٌ تُعنى باستجلاء الاستعارات والمجازات البلاغيَّة في النصِّ الدِّينيِّ.

3. أساتذة آخرون واتصالاتٌ أدبيَّة

تشير المصادر إلى أنَّ الشَّريف الرَّضيَّ أخذ شيئًا من فنّ الكتابة وصناعة التَّرسُّل والخطابة عن أبي إسحاق الصَّابي (ت 384 هـ)، الكاتب المشهور، وهو على خلافٍ في الدِّين مع الرَّضي (إذ كان صابيئًا). إلَّا أنَّ العلاقة الأدبيَّة والثَّقافيَّة بينهما كانت وثيقةً، فكان الرَّضي يرعى مجالس الصَّابي الأدبيَّة، فيتبادلان النصائح والتَّجارب في الكتابة والنَّظم، وعندما تُوفِّي الصَّابي، رثاه الشَّريف الرَّضي بقصائد دامعةٍ تعبِّر عن وفائه لصداقته رغم اختلاف العقيدة.

رابعًا: إنجازاته العلميَّة والأدبيَّة

أ) جمعه لنهج البلاغة وتحقيقه

من أعظم ما أُثِرَ عن الشَّريف الرَّضي في التُّراث الإسلامي كتاب نهج البلاغة، الذي جمع فيه خطبَ الإمام علي بن أبي طالب (ع) وكُتبه وحِكَمه القصار. وقد قام الرَّضيُّ بتصنيف هذه الموادِّ وترتيبها في أبوابٍ خاصَّةٍ، مُسقطًا الأسانيد في غالب الظَّنِّ مكتفيًا بنسبة الكلام إلى عليٍّ (ع). أثار هذا الكتاب جدلًا واسعًا لدى الكثيرين، فراح بعض النُّقاد يُنكِر نسبة الكتاب كلِّه إلى الإمام علي، بينما أكَّد آخرون سلامة النَّقل وعظيم جهد الشَّريف الرَّضي في التَّدوين، وهو الرَّأي الغالب لدى الباحثين الشِّيعة والإماميَّة على وجه الخصوص.

وإنَّما تتجلَّى قيمة نهج البلاغة في الأسلوب الرَّفيع الرَّائع الذي يجمع بين قوَّة البيان وعمق الدُّعاء والحِكمة والتَّضرُّع. ويدلُّ هذا على ذوق الرَّضي وقدرته على التَّمييز بين الأساليب والألفاظ البلاغيَّة التي وُصِف بها الإمام عليٌّ (ع). وليس أدلَّ على ذلك من شهرة الكتاب وقيمته البلاغيَّة والفقهيَّة حتَّى عُدَّ “أخت القرآن” في التعبير الوجدانيِّ لدى بعض علماء العرب وغير العرب.

ب) دواوينه الشِّعريَّة وأغراضه

جمع الشَّريف الرَّضي شعره في ديوانٍ كبيرٍ، طُبِع في طبعاتٍ متعدِّدةٍ، وتنوَّعت موضوعاته بين المديح والرِّثاء والفخر والشكوى والوصف والغزل. لكنَّ شعره في الرِّثاء امتاز بحرارة العاطفة وصدق المشاعر، حتَّى عُدَّ من أبرز شعراء الرِّثاء في تلك الحقبة. رثى أباه وأُمَّه وأخاه وأهله وأصدقاءه والخلفاء والوزراء والأدباء، كما رثى من ذاع صيتهم في المآثر الإنسانيَّة ولو لم تربطه بهم صلةٌ وثيقة.

على أنَّ ديوانه ليس مقصورًا على الرِّثاء، فللشَّريف الرَّضي قسطٌ وافرٌ من شعر الغزل الذي صوَّر فيه أشواقه وأحلامه ورِقَّة طبعه. وله في الفخر قصائد لامعةٌ يعتزُّ فيها بمنزلته العلويَّة وتاريخ آبائه وأجداده، وهو في كلِّ ذلك يستخدم لغةً قويَّةً متينةً تخلو من الزخارف اللفظيَّة الممجوجة.

ج) مراسلاته وكتبه النثريَّة

أمَّا ما يتعلَّق بنثره، فقد عُرِف عن الشَّريف الرَّضي قدرٌ كبيرٌ من التَّرسُّل والكتابة الإنشائيَّة التي تتَّسم بالجزالة والوضوح. ومن آثاره المنثورة: مجاز القرآن الذي أراد به تبيان أوجه البلاغة القرآنيَّة في مواطن الاستعارة، والمجازات النبوية في بيان مجازيَّات أحاديث النَّبيِّ (ص). وهناك أيضًا خصائص أمير المؤمنين الإمام علي، ومختار من شعر الصَّابي؛ إذ كان للرَّضي ولعٌ بالاختيار والانتقاء من أدب الآخرين، لا سيَّما أولئك الذين تربطه بهم علاقاتٌ وثيقة.

خامسًا: فن الرِّثاء في شعر الشَّريف الرَّضي

أ) خصائص الرِّثاء وأبعاده الدِّينيَّة والاجتماعيَّة

اتَّفق نقَّاد الأدب على أنَّ الشَّريف الرَّضي من أبلغ الشُّعراء في الرِّثاء على امتداد العصر العباسيّ. وما ذاك إلَّا لصدق عاطفته وعمق نظرته إلى الموت والحياة. فالرِّثاء عنده ليس محض عدِّ خصال الميت وبكائه، بل هو فلسفةٌ وجوديَّةٌ ورؤيةٌ للحياة والموت. تظهر في شعره نظرة الشِّيعة الإماميَّة إلى الموت بوصفه انتقاءً إلهيًّا، وإلى الدُّنيا بوصفها منزلة موقوتةً لا تُقاس بالسَّعادة الحقيقيَّة.

كما أنَّ الرِّثاء عند الشَّريف الرَّضي لا ينحصر في إطارٍ ضيِّقٍ، بل يتَّسع لرثاء أقربائه وأصدقائه، ورثاء من عرفهم أو تربطه بهم علائقُ إنسانيَّةٌ أو علميَّةٌ أو اجتماعيَّةٌ. فهو يتفجَّع لأجل “المودَّة” وفقدان “الفضل”، وإن اختلف الراحل عنه في الانتماء المذهبيِّ، مثل رثائه لأبي إسحاق الصَّابي. ومن هنا تتوضَّح إنسانيَّته السَّامية التي جعلته يرثي كلَّ من جمعت بينه وبينهم صلةٌ أو محبَّةٌ.

ب) رثاء الشَّريف الرَّضي لأهله وأصحابه

ارتبط الرَّضي برابطة عميقةٍ مع عائلته، فكان محبًّا لأبيه “أبي أحمد الحسين بن موسى” وأُمِّه “فاطمة بنت الحسين” وأخيه الشَّريف المرتضى، وأفراد أسرته. ولمَّا توفِّي أبوه، أُصيب بحزنٍ عميقٍ، فرثاه في قصيدةٍ مطوَّلةٍ استهلَّها بقوله: “أَعَلِمتَ مَن حَمَلُوا على الأَعوادِ” حيث صوَّر من خلالها وجع الفقد وفجيعة الموت. كذلك مراثيه لأُمِّه تعدُّ من روائع أدب الرِّثاء؛ لما تحمله من حرقةٍ وصدقٍ وابتهالٍ لله أن يغفر لها.

لم تقتصر مراثي الرَّضي على أُسرته وحسب، بل كانت له مراثٍ عديدةٌ لأصدقائه، مثل صديقه البدويِّ ابن ليلى الذي رثاه بأكثر من قصيدةٍ. كما رثى من الأكابر السِّياسيِّين والأدباء: بهاء الدولة بن بويه، والخليفة الطائع لله، وأبي إسحاق الصَّابي، وأبي طاهر الحمداني، وغيرهم، مستحضرًا مكارمهم ومناقبهم وخدماتهم وسجاياهم الإنسانية. وقد تكرَّرت في مراثيه خواطر الموت وحتميَّته، وعدم جدوى البكاء الذي لا يردُّ الميت، والدعاء أن يَسقي الله قبورهم بُغية التَّرحُّم عليهم في قبرهم.

ج) رثاء أهل البيت (ع) والبعد العقائديّ

لعلَّ ما يميِّز مراثي الشَّريف الرَّضي أنَّه لم يجعل منها مجرَّد تأثُّراتٍ شخصيَّةٍ، بل وظَّفها أحيانًا في إطار الانتماء العقائديِّ الإمامي. ويتجلَّى هذا الأمر على نحوٍ خاصٍّ في مراثيه للإمام الحسين (ع). فقد نظم خمس قصائد طوال في رثائه، تبرز فيها شجونه الصَّادقة تجاه مصاب أهل البيت في كربلاء. وأكثر ما يتكرَّر في تلك المراثي هو عرضُ مشاهد المأساة وبثُّ اللوعة والمظلوميَّة التي لحقت بالحسين (ع)، إضافةً إلى استنهاض الهمم للانتقام ممن ظلموا آل البيت.

كذلك تستحضر مراثي الرَّضي لأهل البيت ذكريات تاريخيَّة، كالإشارة إلى الخلفاء والسُّلطان، وخطبة الإمام علي (ع) في “الغدير”، أو منع بعض الخلفاء الأمويِّين سبَّ عليٍّ (ع)، أو ما يتعلَّق بالقضايا السياسيَّة في ذلك الزمن. تندرج هذه القصائد ضمن ما يمكن تسميته بـ”الأدب الولائي”، الذي يعبِّر عن عقيدة الشَّاعر وانحيازه الصَّريح إلى آل البيت (ع).

سادسًا: الجانب السِّياسيّ في شعره: أشواق الإمارة والخلافة

عُرف عن الشَّريف الرَّضي أنَّه نقيب الطالبيِّين وإمامٌ في النَّسب العلويِّ وإمارة الحجِّ والنَّظر في المظالم، وكانت تلك المناصب السِّياسيَّة والدِّينيَّة تؤسِّس لمكانةٍ اجتماعيَّةٍ عليا، بحيث ظهرت في أشعاره بوادر الطُّموح إلى مرتبةٍ تفوق الإمارة، وهي الخلافة. ولا ريب في أنَّ البيئة العبَّاسيَّة المشوبة بضعف الخلفاء وتسلُّط البويهيِّين، جعلت الرَّضي يرى نفسه أحقَّ بخلافةٍ علويَّةٍ في ظلِّ غياب القيادة القويَّة.

يتجلَّى هذا الجانب في بعض قصائده التي يخاطب فيها ملوك بني بويه أو الخلفاء العبَّاسيِّين بما يدلُّ على شعوره بأنَّه الأجدر. بل إنَّه يُشيع في شعره التَّذكير بأصوله العلويَّة المتَّصلة بالإمام علي (ع) وفاطمة الزهراء، ويفتخر بها فخرًا صريحًا، معتبرًا أنَّ الحكم الإسلاميَّ الذي يُمثِّله العلويُّون هو الحكم الشَّرعيّ الصَّحيح. ولهذا، قال بعض الباحثين إنَّه اعتنق الإماميَّة-الزيديَّة أو المذهب الإماميَّ ذا الرُّوح الثَّوريَّة؛ لأنَّه رأى أنَّ حقَّ آل البيت (ع) في الحكم مُغتصبٌ، وأنَّه قد آن الأوان لعودتهم. لكنَّه لم يتورَّط في ثورةٍ دمويَّةٍ، مكتفيًا بالتَّهديد السِّياسيّ اللفظيِّ، أو الخطاب النَّاريِّ أحيانًا.

ومع ذلك، تُنبِئنا أخبار تلك المرحلة أنَّ الشَّريف الرَّضي كان محبوبًا لدى النَّاس لتديُّنه وتقواه وصفاء قلبه، وأنَّه لم يجرِ بينه وبين العامَّة نزاعٌ، بل صبَّ جام غضبه على خصومه السِّياسيِّين في إطار المناظرات والخطابات الأدبيَّة. ويلحظ الدَّارس لتاريخه أنَّه حافظ على ولائه الأسمى لأهل البيت (ع) وجهرَ بموالاة عليٍّ (ع)، فكان ذلك عاملًا أساسيًّا لجذب أنصار المذهب الإماميِّ وتوحيدهم حوله.

سابعًا: اللغة والأسلوب في شِعر الشَّريف الرَّضي

اعتمد الشَّريف الرَّضي في شعره على لغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ مُستمدَّةٍ من الرُّوح القرآنيَّة والتراث البلاغيِّ القديم. أتاحت له معرفته الواسعة بأسرار العربية أن يُشَكِّل أساليب أنيقةً معجميًّا وتركيبيًّا. كما سمحت له قدرته البلاغيَّة باستحضار الصُّور والتَّشبيهات في رثائه وغزله ومدائحه على السَّواء. وغلب على شعره الإيجاز المترابط أحيانًا، والطُّول الموزون المتدفِّق أحيانًا أخرى، وفقًا للغرض الشِّعريِّ والمقام التَّعبيري.

من أبرز سمات أسلوبه:

• الجزالة والقوَّة: تتجلَّى في قصائده الفخريَّة والرِّثائيَّة التي تتعامل مع قضايا عظمى مثل الموت والبطولة والمجد.
• الرِّقَّة والعذوبة: تظهر في قصائد الغزل والمناجاة والرِّثاء الحزين، حيث يتدفَّق الشُّعور بعفويَّة.
• الحكمة والوعظ: إذ لا يكاد يخلو شعره من نظرةٍ إلى الدَّهر والزَّمان والموت، يستلهم فيها التَّجارب والفلسفة الإنسانيَّة.
• التضمين القرآنيُّ والحديثيُّ: فقد تعلَّق الرَّضي بالقرآن والحديث تأمُّلًا وتدبُّرًا، فاستمدَّ منهما نظمه وصُوَره، مع إتقانٍ في توظيف الاستشهاد.

لم يسلك الرَّضي مسلك التَّكلُّف والزَّخرفة اللَّفظيَّة المغالية، وهو في ذلك يتوافق جزئيًّا مع أسلوب المتنبِّي في جزالة الألفاظ وقوَّة التَّركيب، لكنَّه يختلف عنه في غلبة الحزن والوجدانات الرَّقيقة، مقابل الاعتزاز والكبرياء المتنبِّيَّين.

ثامنًا: بنية قصيدة الرِّثاء عند الشَّريف الرَّضي

تتَّخذ قصائد الرِّثاء في ديوان الشَّريف الرَّضي هيكلًا عامًّا غالبًا، وإن كانت تتفاوت في عدد الأبيات وعدد المقاطع، بحسب مكانة المرثي وموقعيَّة القصيدة؛ إذ غالبًا ما يراعي الشَّريف الرَّضي مقتضى الحال. ويمكن تحديد ملامح بنية قصيدة الرِّثاء عنده في النِّقاط التالية:

1. الاستهلال بتصوير ألم الفقد: حيث يُطلق الشَّاعر عبارات الحزن والحرقة من اللحظة الأولى، مُوضِّحًا أنَّه لا يجد سبيلًا لكتمان البكاء أو السَّلوى.
2. استدعاء الدُّموع وذكر البكاء: يلجأ الرَّضيُّ إلى تصوير الدُّموع وهي تتدفَّق من المقلتين كالسَّيل، وربَّما يجري مقارنةً بينها وبين دموع الثَّكالى، تعبيرًا عن شدَّة التَّفجُّع.
3. تعداد خصال المرثي وفدائيَّته: يعرض مناقب الميِّت وخصاله الحميدة، وقدرته على الإحسان أو الشَّجاعة أو العلم أو الكرم. ثمَّ يتمنَّى لو استطاع افتداءه بنفسه أو بفتيانه.
4. ذكر حتميَّة الموت: كثيرًا ما يشير إلى أنَّ الموت أمرٌ لا مفرَّ منه، وأنَّ الدُّنيا إلى زوالٍ، وحتَّى لو بكى المرءُ الدَّهر كلَّه، فلن يعود له الرَّاحل. وفي ذلك تذكيرٌ بفناء الوجود الدُّنيويِّ.
5. التَّعزية والمواساة: يختم الشَّاعر قصيدته أحيانًا بتعزية أهل الفقيد وأحبَّته، داعيًا إيَّاهم إلى الصَّبر؛ لأنَّ الأجر عظيمٌ، والموت قَدَرٌ محتوم.

هذه البنية المخصوصة تجعل قصائد الرِّثاء عنده تمزج بين الشَّعور الذَّاتيِّ والرؤية الفلسفية؛ ولذلك لامست القلوب لجمالها وصدقها.

تاسعًا: جدول لتوضيح بعض الخصائص الأسلوبيَّة في شعر الشريف الرَّضي

عاشرًا: انعكاس الرؤية الاجتماعيَّة والفكريَّة في رثاء الشريف الرَّضي

لا يقتصر الرِّثاء عند الشَّريف الرَّضي على دائرة الحزن الفرديِّ فحسب، بل يتعدَّاه إلى رؤيةٍ اجتماعيَّةٍ ونقدٍ لواقعٍ كان يراه فاسدًا بالمعايير الأخلاقيَّة؛ إذ تردَّت أحوال النَّاس وفشا الغدر في الآفاق وانتشر الحسَد بين الأقارب والأباعد. من هنا، يمكن القول إنَّ الرِّثاء عنده ميدانٌ للخروج بموقفٍ من الدُّنيا والزَّمان:

• البُعد الأخلاقيُّ: ينصح الشَّاعر في قصائده الرِّثائيَّة بالصَّبر وتقوى الله، وكأنَّه يستحضر العالم الآخر كمقامٍ أبديٍّ لا يُعنَى بمفاتن الدُّنيا الزَّائلة.
• الانتقاد الاجتماعيُّ: يُصوِّر بعض الأشعار أشكال الغدر والخذلان التي عاناها، فتراه يندِّد بالحسَّاد على لسانه أو لسان الفقيد، ويصفهم بأنَّهم أعداء الفضيلة.
• خسارة القيم العالية: يرى الشَّريف الرَّضي أنَّ فقدان شخصٍ كريمٍ ذي مكانةٍ مرموقةٍ يؤدِّي إلى انهيار قيمةٍ اجتماعيَّةٍ كان يحملها الفقيد.

يتَّضح من ذلك أنَّ الرِّثاء عنده نافذةٌ للتأمُّل في أحوال النَّاس، والدَّعوة إلى الألفة والاتِّحاد، والتَّذكير بفناء الدُّنيا. ولعلَّ هذا الإطار الفكريَّ جعل من رثائه مدرسةً أدبيَّةً كان لها تأثيرٌ على الشُّعراء اللاحقين من الإماميَّة وغيرهم.

حادي عشر: مدى تأثُّره بالشُّعراء السَّابقين والمجايلين

يتساءل الباحثون عادةً عمَّا إذا كان الشَّريف الرَّضي مُقلِّدًا للمتنبِّي في الفخريَّات والرِّثائيَّات، أم إنَّه مجدِّدٌ ومبدعٌ بذاته. والواقع أنَّ الرَّضيَّ اعترف بأستاذيَّة المتنبِّي في الأدب، لكنَّه لم يقصر إعجابه عليه، فقد قرأ أيضًا لشعراء العصرين: الجاهليّ والإسلاميّ، وتأثَّر بابن الرُّومي والمعرِّي بعض الشَّيء، خاصَّةً في البُعد الفلسفيِّ. غير أنَّ شخصيَّته بقيت متميِّزةً، وقد يكون تأثُّره الأوسع بابن أبي طالب (ع) في خطبه وكلماته البليغة، أكثر من تأثُّره بأيِّ شاعرٍ آخر.

فلا عجب بعد ذلك أن يصفه الثَّعالبيُّ بأنَّه “أشعر الطالبيِّين من مضى ومن غبر”، ويؤكِّد ابن أبي الحديد أنَّه “إن قصد في المراثي جاء سابقًا والشعراء منقطعٌ أنفاسهم على إثره”. ويرجَّح النُّقاد أنَّ قوَّة العاطفة وصدقها لديه جاءت من تراكم الأحزان في حياته القصيرة نسبيًّا (47 سنةً)، ومن عُمق التجربة الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة التي خاضها.

ثاني عشر: الشَّريف الرَّضي في مواجهة النُّقاد والمُحدِّثين

لم يسلم الشَّريف الرَّضي من هجمات بعض النُّقاد الذين شكَّكوا في صدق انتسابه الأدبي، أو ادَّعوا أنَّه اختلس شيئًا من ديوان أخيه أو من المعاصرين له. لكنَّ هذه الدَّعاوى لم تثبت، لعدم قيام براهين حقيقيَّةٍ عليها، فضلًا عن إقرار معاصريه بجودة شعره وامتيازه.

كذلك ثار جدلٌ حول نسبة نهج البلاغة للإمام علي، وذهب البعض للقول إنَّه من إنشاء الشَّريف الرَّضي ذاته، لكنَّ أغلب المصادر الحديثيَّة عند الإماميَّة، بل وبعض النُّقاد من أهل السُّنَّة والجماعة، وجدوا شواهد على أنَّ أجزاءً كبيرةً من هذه الخطب منسوبةٌ لعليٍّ (ع). وإن كان هناك من يرى أنَّ بعض الخطب أُضيفت أو دخلتها زياداتٌ لغويَّة. على كلٍّ، يبقى إنجازه في جمع هذا الكتاب من المحاسن الأدبيَّة والتاريخيَّة الكبرى.

ثالث عشر: قراءة في نماذج مراثيه

1. رثاؤه لأُمِّه

في قصيدته المشهورة التي افتتحها بقوله: “أَبكِيكِ لَو نَقَعَ الغليلُ بُكَائِي”، يظهر عمق حزنه وبكاؤه المرير عليها، وكيف عاين فراقها وكأنَّه الفراق الأبديُّ الذي لا يبرأ القلب منه. يقول فيها (مقتبسًا بتصرُّف):

أَبكِيكِ لَو نَقَعَ الغَلِيلَ بُكَائِي
وَأَقُولُ لَو ذَهَبَ المَقَالُ بِدَائِي

إنِّي خَبِرتُكِ بِالحَقيقَةِ أُمَّنَا
وكَفَلتِنَا فَكُنتِ نِعمَ الكَافِي

لَو كَانَ مِثلَكِ كُلُّ أُمٍّ بَرَّةٍ
غَنِيَ البَنُونَ بِهَا عَنِ الآبَاءِ

يسترسل بعدها في تعداد مناقبها، مشيدًا بعلمها وورعها وحبِّها لأولادها، وكأنَّه يريدُ أن يوسِّع دائرة الرِّثاء إلى حال كلِّ ولدٍ فقد أمَّه في هذه الدُّنيا.

2. رثاؤه لأبي إسحاق الصَّابي

كتب الرَّضيُّ في الصَّابي أكثر من مرثيَّةٍ، من أجملها تلك التي جمع فيها بين التَّحسُّر على موت الصَّديق والإشادة بقلمه وبلاغته. ومن ذلك قوله:

ثَكَلَتكَ أرضٌ لم تَلِدْ لَكَ ثَانِياً
أَنَّى، ومِثلُكَ مُعْوِزُ المِيلادِ

مَن لِلبَلاغَةِ والفَصاحَةِ إِنْ هَمى
ذاكَ الغَمامُ، وعبَّ ذاكَ الوَادِي؟

هو يرى في رحيل الصَّابي خسارةً فادحةً للبيان والفصاحة، ويستخدم الصُّور الشِّعريَّة التي تشبِّه غزارة بلاغته بالمطر المنهمر. يظهر من المرثيَّة احترامه العميق للصَّابي رغم اختلاف الدِّين والمذهب، ما يعكس إنسانيَّته الواسعة.

3. رثاؤه للإمام الحسين (ع)

يعدُّ هذا المحور الأهمَّ في مراثيه (مراثي عاشورائيَّة)، لأنَّه يرسم فيه ملامح المظلوميَّة الكبرى، ويصور مشاهد كربلاء، ويعبِّر عن حزنه لسيِّد الشُّهداء. من ذلك قوله:

كَربَلا لازِلتِ كَربًا وَبَلا
مَا لَقِيَ عِندَكِ آلُ المُصطَفَى

كَمْ عَلَى تُربِكِ لَمَّا صُرِّعُوا
مِنْ دَمٍ سالَ وَمِن دَمعٍ جَرَى

تتأجَّج عاطفة الرَّضي في هذه المراثي، ويستنهضُ فيها نخوة المسلمين، كما لا ينسى التَّذكير بحقِّ آل البيت (ع) في قيادة الأمَّة. وقد احتذى كثيرٌ من شعراء الشِّيعة من بعده هذا المنحى في التَّصوير والتَّفاعل الوجدانيِّ.

رابع عشر: أثر الشريف الرضي في الأدب اللاحق

يُعدُّ الشَّريف الرَّضي حلقةً وصلٍ في مسار الأدب العربيِّ؛ إذ امتدَّ تأثيره على طلَّابه ومجايله كابن جِنِّي الذي شرح أشعاره، ومهيار الدِّيلمي الذي تأثَّر بشاعريَّته، وكذلك على أجيالٍ لاحقةٍ من شعراء الشِّيعة الذين استلهموا مراثيه في رثاء أهل البيت. وتمتاز أشعاره بالسَّبك القويِّ والقالب الفاخر والحرارة العاطفيَّة التي عزَّ نظيرها، فصارت قبلةً لمن يريد تعلُّم صياغة الرِّثاء.

على المستوى الفنيِّ، كان لأسلوبه في الدمج بين الحِكمة والعاطفة في نصٍّ رثائيٍّ تأثيرٌ واضحٌ في كثيرٍ من القصائد اللاحقة التي تحاول أن تزاوج بين ضربٍ من الفلسفة والتَّأمُّل في الموت والحياة، وبين صدق المشاعر الإنسانيَّة في الفقد. ولعلَّ الباحثين في الأدب المقارن يرون أنَّ بعض الأبيات الرِّثائيَّة لدى شعراء الأندلس كانت متأثِّرةً بنهج الشَّريف الرَّضي في تصوير الميت والتأمُّل في الدَّهر.

خامس عشر: الوفاة والإرث الخالد

تُوفِّي الشَّريف الرَّضي في السادس من محرَّم سنة 406 هـ (1015 م) عن عمرٍ يُناهز 47 عامًا، ودُفِن في داره بالكرخ (أو قرب مسجد الأنباريِّين)، وأُقيم له مأتمٌ عظيمٌ في بغداد؛ إذ نعاه العلماء والأدباء والشُّعراء. وكانت فاجعته كبيرةً، وأوَّل من رثاه كان أخوه الشَّريف المرتضى بقصيدةٍ معروفةٍ مطلعها: “يَا لَلرِّجَالِ لِفُجعَةٍ جَذَمَتْ يَدِي…”. كما كتب مهيار الدِّيلمي، تلميذه الوفيُّ، قصيدةً مؤثِّرةً قال فيها:

أقُرَيشُ لا لِفَمٍ أَرَاكِ ولا يَدِ
فَتَوَاكلِي، غاضَ النَّدَى وخَلَا النَّدِي

ويبدو في هذه القصيدة كيف يصف الشَّريف الرَّضي بأنَّه كان حامل النَّدى والكرم، فلمَّا رحل، غاض نبع الجود من مجلس الشعراء والأدباء.

خلَّف الرَّضي وراءه إرثًا غنيًّا، هو ديوانه الشِّعريُّ الكبير، وكتبُه في الحديث والقرآن، إضافةً إلى مكانته الخالدة في جمع “نهج البلاغة”، وهو الكتاب الذي صار له أصداءً هائلةً في التَّاريخ الإسلاميِّ والإنسانيِّ. وبذلك، بقي الشَّريف الرَّضي حيًّا في ذاكرة الأدب والفكر، واستحقَّ مكانةً سامقةً جعلته في طليعة عظماء الأدب العربيِّ.

الخاتمة والنتائج

انطلاقًا من هذه الجولة الواسعة في سيرة الشَّريف الرَّضي وأدبه، خاصَّةً جانب الرِّثاء الذي أسهم بشكلٍ واضحٍ في شهرته وبروزه بين شعراء عصره، يمكن تلخيص أهمِّ النَّتائج فيما يلي:

1. الشَّريف الرَّضي رمزٌ أدبيٌّ ودينيٌّ: امتلك بفضل نسبه العلويِّ مكانةً اجتماعيَّةً وسياسيَّةً متميِّزةً، ونوَّع تكوينه بين الفقه والكلام واللُّغة والأدب.
2. البيئة العبَّاسيَّة والبويهيَّة: ساعدته على إبراز مواهبه؛ إذ كانت فترةً غنيَّةً بالمدارس اللغويَّة والحوارات الكلاميَّة والتنافس الشِّعريِّ.
3. فنُّ الرِّثاء عند الرَّضي: بلغَ ذروة الإبداع والحرارة العاطفيَّة، إذ لم يكتفِ بالرِّثاء الشَّكليِّ بل مزجه بفلسفةٍ حول الموت والاغتراب، وأكسبه نزعةً إنسانيَّةً.
4. رثاء أهل البيت (ع): شكَّل بعدًا عقائديًّا وسياسيًّا، وأبرز ولاء الشَّاعر لأئمَّة آل البيت، ونداءه لرفع الظُّلم واستعادة حقِّهم التَّاريخيِّ.
5. اللغة والأسلوب: اتَّسم شعره بجزالة الألفاظ، وسلامة التَّركيب، والتضمين القرآنيِّ والحديثيِّ، ومتانة البناء البلاغيِّ؛ ما جعله موضع إعجاب النُّقاد شرقًا وغربًا.
6. نهج البلاغة: يمثِّل عملًا توثيقيًّا جليلًا لخطب الإمام علي (ع) ويعكس ذوق الرَّضي البلاغيَّ وقدرته الفائقة على الجمع والانتقاء. وعلى الرُّغم من بعض الشُّكوك، بقي أثره ضخمًا في الأدب والتُّراث.
7. أثره الدَّائم: ظلَّت قصائده الرِّثائيَّة مثالًا يُحتذى به في صدق العاطفة وقوَّة التَّعبير وجمال التَّصوير، وتأثَّر به نفرٌ من الشُّعراء الإماميِّين وغير الإماميِّين في القرون اللاحقة.

إنَّ الشَّريف الرَّضي شخصيةٌ تركت بصمتها على عدَّة أصعدةٍ، فهو النَّقيب والأمير والشَّاعر والفقيه، وهو الموالي لأهل البيت، والشَّاعر الذي يعكس رُوحهم ومظلوميتهم في شعره. ومن يقرأ ديوانه وكتبه الفكريَّة يرى فيه شموليَّة شخصيَّة العالم الأديب الذي أدرك الجوانب الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والإنسانيَّة لتجربته، فخلد في سجلِّ الأدب العربيِّ.

المراجع والمصادر

• الثعالبي، أبو منصور عبد الملك. (1983م). يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. تحقيق مفيد قميحة. دار الكتب العلمية.
• ابن أبي الحديد، عبد الحميد. (1965م). شرح نهج البلاغة. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة.
• ابن خلكان، شمس الدين أبو العباس. (لاتا). وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. تحقيق إحسان عباس. دار صادر.
• ابن الأثير، عز الدين. (1966م). الكامل في التاريخ. دار الكتاب العربي.
• ابن الجوزي، أبو الفرج. (1939م). المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. حيدر آباد الدكن.
• الشريف الرضي. (1307ش). ديوان الشريف الرضي. طبع طهران.
• الزوزني، الحسين بن أحمد. (2006م). شرح المعلقات السبع. تحقيق عبد الرحمن المصطاوي. بيروت.
• أبوعليوي، حسين. (1986م). الرثاء في شعر الشريف الرضي. مجلة علوم اللغة العربية، العدد الثاني.
• زكي مبارك. (1938م). الشريف الرضي. مطبعة حجازي، القاهرة.
• حنا الفاخوري. (1378ش). تاريخ الأدب العربي. بيروت.
• عمر فروخ. (1979م). تاريخ الأدب العربي. دار العلم للملايين.
• عبد الرزاق محي الدين. (1977م). شخصياتٌ عراقيَّةٌ. بغداد.
• شوقي ضيف. (2007م). تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الثاني. دار المعارف، القاهرة.
• الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك. (1991م). الوافي بالوفيات. تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى. بيروت.

لقد قدَّم هذا البحث إطلالةً واسعةً على حياة الشَّريف الرَّضي، وأضاء على تكوينه العلميِّ والأدبيِّ، متوقِّفًا بإسهابٍ عند فنِّ الرِّثاء، وهو الجانب الذي برز فيه الشَّاعر بوضوحٍ. إنَّ دراسةً متعمِّقةً لشخصيَّة الرَّضي تبيِّن مدى تأثُّره بالبعدين: السِّياسيِّ والعقدي، إلى جانب خصوصيَّة ذائقته الأدبيَّة التي أكسبته لقب “نائحة الثَّكلى” بحقٍّ. هكذا ظلَّت ذكراه حيَّةً في تاريخ الأدب العربي، ولم تزل قصائده تتصدَّر المشهد عند الدَّارسين، وهو ما يؤهِّله لأن يكون بين أبرز أسماء الشُّعراء في العصر العباسي.