سيارات المدخنين: خطر صحي قاتل

سيارات المدخنين: غرف غاز سامة متنقلة تهدد الصحة العامة

تشكل السيارات التي يدخن فيها السائقون أو الركاب خطرًا صحيًا جسيماً، يتجاوز في أبعاده الضرر المباشر الذي يُلحق بالمدخن نفسه. فهذه المركبات تتحول تدريجيًا إلى غرف مغلقة مشبعة بالغازات السامة والمواد الكيميائية الناتجة عن احتراق التبغ، وهو ما يُعرّض جميع من بداخلها – خصوصًا الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل – لمستويات مرتفعة من التلوث الداخلي. وتزداد الخطورة بشكل مضاعف في حال إغلاق النوافذ واستخدام نظام التكييف، حيث تنحصر مكونات الدخان في بيئة محدودة الحجم، ما يحول السيارة إلى ما يشبه “غرفة غاز سامة” متنقلة، تهدد الصحة العامة بشكل مباشر ومستمر.

التدخين في السيارة: بيئة مغلقة وتركيز عالٍ للسموم

التبغ يحتوي على أكثر من 7000 مادة كيميائية، منها حوالي 250 مادة ضارة، و69 مادة مسرطنة معترف بها من قبل الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC). عند إشعال السيجارة في السيارة، تنبعث هذه المواد وتبقى محصورة داخل المساحة الصغيرة للمقصورة الداخلية. وعلى الرغم من اعتقاد البعض أن فتح النوافذ أو تشغيل المروحة قد يقلل من التأثير، إلا أن الدراسات أثبتت أن ذلك لا يُزيل الخطر بل يخففه بنسبة ضئيلة جدًا لا تلغي التهديد على الصحة.

تشير دراسة نشرتها مجلة Tobacco Control إلى أن تركيز الجسيمات الدقيقة السامة (PM2.5) في السيارات التي يُدخن فيها، يمكن أن يصل إلى مستويات تعادل أو تفوق تلك التي تسجلها المدن الأكثر تلوثًا في العالم، حتى مع فتح النوافذ. هذه الجسيمات الدقيقة، التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر، قادرة على التغلغل إلى أعماق الرئتين والدخول إلى مجرى الدم، مما يزيد من احتمالية الإصابة بأمراض القلب، والسكتات الدماغية، والسرطان، والربو، وأمراض الرئة المزمنة.

التدخين السلبي في السيارة: الضحية الصامتة

يتحول الراكب غير المدخن، لا سيما الأطفال، إلى ضحية للتدخين السلبي أو ما يعرف علميًا بـ “التعرض غير الإرادي للتبغ”. الأطفال هم الأكثر عرضة للتأثيرات الصحية لهذا النوع من التلوث، نظرًا لصغر حجم رئاتهم وعدم اكتمال تطور جهازهم المناعي. وتُظهر الأبحاث أن استنشاق الطفل لدخان السجائر في السيارة يزيد من خطر إصابته بالتهابات الأذن، والربو، ومشاكل التنفس، والتهابات الجهاز التنفسي السفلي مثل التهاب القصيبات والشعب الهوائية.

في عام 2009، نشرت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال دراسة أفادت أن الأطفال الذين يتعرضون للتدخين داخل السيارات معرضون لمستويات مرتفعة من النيكوتين، وأن مجرد إشعال سيجارة واحدة داخل السيارة يكفي لخلق بيئة ملوثة تفوق معايير الجودة الهوائية المقبولة في الأماكن العامة.

مكونات دخان التبغ داخل السيارة: توليفة سامة

دخان التبغ المنبعث داخل السيارة لا يقتصر تأثيره على فترة التدخين فقط، بل يستمر تأثيره لفترات طويلة بعد إطفاء السيجارة. ويمكن تقسيم هذا الدخان إلى ثلاثة أنواع:

1. الدخان الرئيسي (Mainstream Smoke): هو الدخان الذي يستنشقه المدخن مباشرةً.

2. الدخان الجانبي (Sidestream Smoke): هو الدخان المنبعث من الطرف المحترق للسيجارة ويحتوي على تركيزات أعلى من المواد السامة.

3. الدخان الثالث (Third-hand Smoke): هو ما يترسب من مواد كيميائية على الأسطح داخل السيارة – مثل المقاعد، والسجاد، ولوحة القيادة – ويستمر لأسابيع، بل وحتى لأشهر، ويُعاد إطلاقه في الهواء مع كل حركة أو استخدام للمكيف.

الدخان الثالث يعد خطرًا غير مرئي ومستمر، ولا يتم التخلص منه بالغسيل السطحي أو التهوية فقط، بل قد يتطلب تغيير الفرش أو تنظيفًا احترافيًا متخصصًا، مما يجعله مصدر تهديد مستمر حتى بعد توقف التدخين.

التدخين في السيارة والمخاطر المرورية

إضافة إلى المخاطر الصحية، فإن التدخين أثناء القيادة يمثل خطرًا مروريًا بحد ذاته. إذ أن إشعال السيجارة والانشغال بها قد يؤدي إلى تشتت الانتباه، وضعف التركيز، وزيادة احتمالية وقوع الحوادث. كما أن رماد السيجارة قد يتطاير في السيارة مسببًا حروقًا أو إرباكًا للسائق. وقد سجلت العديد من حالات الحوادث المرورية التي كان التدخين فيها عاملاً مشتركًا في وقوعها.

التشريعات والقوانين: حماية ضرورية للركاب

استشعارًا بالخطر المتزايد الناتج عن التدخين في المركبات، بدأت العديد من الدول باتخاذ تدابير قانونية صارمة للحد من هذه الممارسة. فمثلاً:

تهدف هذه القوانين إلى تقليل التعرض للتدخين السلبي وتعزيز الوعي بخطورة التدخين في الأماكن المغلقة، خاصةً المركبات.

التدخين في السيارة والأثر البيئي

لا يتوقف ضرر التدخين في السيارة عند الأبعاد الصحية فقط، بل يمتد ليشمل البيئة. فبقايا السجائر التي تُرمى من نوافذ السيارات تمثل خطرًا بيئيًا فادحًا، حيث يمكن أن تتسبب في حرائق الغابات، وتلوث التربة والمياه، كما أن الفلاتر البلاستيكية للسجائر تستغرق سنوات طويلة لتتحلل. ويُقدّر أن ملايين أعقاب السجائر تُرمى يوميًا من نوافذ السيارات حول العالم، ما يجعل التدخين في السيارات مساهمًا مباشرًا في التدهور البيئي.

المركبات المدخنة: كارثة صحية للأطفال والنساء الحوامل

النساء الحوامل اللاتي يتعرضن للدخان داخل السيارات – سواء كمدخنات أو راكبات – يواجهن خطرًا حقيقيًا على صحة الجنين. فقد ثبت أن التعرض لدخان السجائر يزيد من احتمالية حدوث الإجهاض، والولادة المبكرة، وانخفاض وزن الطفل عند الولادة، بالإضافة إلى التأثيرات العصبية السلبية التي قد ترافق الطفل مدى الحياة.

من جهة أخرى، فإن الأطفال الذين ينمون في بيئة يتكرر فيها التعرض لدخان السجائر داخل السيارة، يعانون من مشاكل سلوكية واضطرابات في النوم وصعوبات في التعلم، ما يجعل من هذا السلوك تهديدًا مستمرًا لتنمية الطفولة.

معايير الهواء داخل السيارة: متجاوزة للحدود الآمنة

توصي منظمة الصحة العالمية بأن لا يتجاوز تركيز الجسيمات الدقيقة (PM2.5) في الهواء 25 ميكروغرام/م³ خلال 24 ساعة. غير أن الأبحاث التي أجريت في المركبات التي يُدخن فيها كشفت عن أرقام مرعبة، وصلت في بعض الحالات إلى أكثر من 1000 ميكروغرام/م³، أي ما يعادل 40 ضعفًا للحد المسموح به.

وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن تركيز أول أكسيد الكربون – أحد مكونات دخان السجائر – قد يصل في السيارات إلى مستويات مشابهة لتلك المسجلة في أنفاق السير المزدحمة، مما يعزز حقيقة أن السيارة تتحول عند التدخين إلى بيئة ملوثة أشبه ما تكون بـ”غرفة غاز سامة”.

التوصيات العالمية ومنظمات الصحة

منظمة الصحة العالمية، ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، والجمعيات الطبية الرائدة توصي جميع السائقين بمنع التدخين داخل السيارات، لا سيما في وجود ركاب من الفئات الضعيفة. كما تُطالب هذه الجهات بسن قوانين حازمة وشاملة للحد من هذه الظاهرة، وبإطلاق حملات توعوية تستهدف السائقين والمدخنين لتوضيح المخاطر الحقيقية وراء التدخين في الأماكن المغلقة.

خاتمة: السيارة المدخنة بيئة قاتلة متنقلة

التدخين داخل السيارة لا يمكن اعتباره خيارًا شخصيًا، بل هو سلوك ذو تأثير جماعي خطير، ينتهك حق الآخرين في استنشاق هواء نظيف، ويعرّضهم لخطر صحي مباشر ومتكرر. إن هذه “الغرف الغازية المتنقلة” التي نراها يوميًا في الشوارع تُعد أحد أشكال التلوث غير المرئي، لكنها تحمل أضرارًا تفوق التوقعات، وتستوجب وقفة مجتمعية وتشريعية عاجلة.

المراجع:

1. World Health Organization. Tobacco and its environmental impact: an overview. Geneva, 2017.

2. U.S. Department of Health and Human Services. The Health Consequences of Involuntary Exposure to Tobacco Smoke: A Report of the Surgeon General. Atlanta: CDC, 2006.