سنوات الترحال مع ابن بطوطة

ابن بطوطة ورحلة العمر: 29 عامًا من الترحال والاستكشاف في القرون الوسطى

في قلب القرن الرابع عشر الميلادي، وبينما كان العالم الإسلامي يمتد من المحيط الأطلسي غربًا حتى حدود الصين شرقًا، ظهر رجل مغربي من مدينة طنجة، يُدعى محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، واشتهر لاحقًا بلقب “ابن بطوطة”، ليصبح أعظم رحّالة في التاريخ الإسلامي بل وفي التاريخ البشري قاطبة. لا يُعرف كثيرون قطعوا مسافات تعادل ما قطعه هذا الرجل في عصر لم يكن يعرف وسائل النقل الحديثة، إذ قضى نحو 29 عامًا من حياته في الترحال، قاطعًا أكثر من 120 ألف كيلومتر، زائرًا عشرات البلدان والممالك، وموثقًا مشاهداته بدقة مذهلة.

تبدأ قصة ابن بطوطة في عام 1325م، عندما كان في الحادية والعشرين من عمره، حين قرر التوجه إلى مكة لأداء فريضة الحج. لم يكن يدري آنذاك أن هذه الرحلة ستمتد لعقود، وستأخذه إلى آفاق لم يكن ليتخيلها في بداية طريقه. بدأ رحلته من طنجة، سالكًا السواحل الشمالية لإفريقيا، ومن ثم إلى مصر والشام، وصولًا إلى الحجاز حيث أدى مناسك الحج. لكن بدلًا من العودة إلى المغرب بعد إتمام فريضته، اختار مواصلة الترحال، مدفوعًا برغبة لا تُقهر في استكشاف العالم الإسلامي الواسع وثقافاته المتعددة.

خلال تسعة وعشرين عامًا، زار ابن بطوطة ما يزيد عن 44 بلدًا حاليًا، وتنوعت رحلاته بين الأراضي الإسلامية والهند، والصين، وتركيا، وآسيا الوسطى، وشرق إفريقيا، وحتى بلاد المغول. ويمكن تقسيم هذه الرحلة الطويلة إلى مراحل زمنية وجغرافية، تُبرز مدى التنوع الحضاري الذي عايشه وسجله.

المرحلة الأولى: من المغرب إلى مكة (1325 – 1326م)

انطلقت رحلة ابن بطوطة الأولى من طنجة، متجهًا شرقًا عبر الجزائر وتونس وليبيا، وصولًا إلى مصر. من هناك، عبر سيناء إلى الشام، حيث زار القدس ودمشق وحلب، قبل أن يتوجه إلى مكة عبر المدينة المنورة. وفي مكة، قضى بعض الوقت في التعلم والتعبد، ثم بدأ يتأمل في تمديد رحلته إلى آفاق أبعد.

المرحلة الثانية: من الحجاز إلى العراق وفارس وآسيا الصغرى (1326 – 1330م)

من مكة، توجه ابن بطوطة إلى العراق عبر نجد، فزار البصرة والكوفة وبغداد. ثم اتجه إلى بلاد فارس، متجولًا في شيراز وأصفهان وتبريز. بعد ذلك، زار آسيا الصغرى (تركيا الحديثة)، حيث أعجب بتعدد الإمارات التركية وثرائها الثقافي. في هذه المرحلة، بدأ يتعرف على التنوع المذهبي والثقافي داخل العالم الإسلامي، من الشيعة في فارس إلى السنّة في الأناضول.

المرحلة الثالثة: من الشام إلى إفريقيا الشرقية (1330 – 1332م)

عاد ابن بطوطة إلى مكة مجددًا لأداء الحج مرة أخرى، ثم قرر التوجه جنوبًا نحو اليمن ومن هناك إلى شرق إفريقيا، فزار عدن وزبيد، ثم انتقل بحرًا إلى زنجبار وممباسا ومدن الساحل الشرقي الإفريقي مثل مقديشو. وقد اندهش من طبيعة المجتمعات الإسلامية في تلك المناطق، التي كانت آنذاك غنية بالتجارة والثقافة المحلية.

المرحلة الرابعة: الهند وجنوب آسيا (1333 – 1341م)

بعد عودته إلى مكة، قرر ابن بطوطة الانطلاق في واحدة من أطول وأهم مراحل رحلته: إلى الهند. أبحر من الخليج العربي، ومر بسلطنة هرمز وساحل السند، حتى وصل إلى الهند، حيث قضى قرابة ثماني سنوات في بلاط السلطان محمد بن تغلق في دلهي. عُين قاضيًا هناك، وكانت تلك من أعلى المناصب التي وصل إليها، وسمحت له بالاطلاع العميق على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في الهند الإسلامية.

لاحقًا، أُرسل في مهمة دبلوماسية إلى الصين، وكانت تلك فرصة لابن بطوطة لاستكشاف طريق آخر من طرق الشرق الأقصى.

المرحلة الخامسة: الصين والشرق الأقصى (1341 – 1346م)

سلك ابن بطوطة الطريق البحري عبر جزر المالديف وسريلانكا، ثم توجه إلى البنغال وجنوب الصين، حيث زار ميناء كانتون الشهير، واطّلع على النظام الإداري والاجتماعي الصيني، كما أُعجب بنظافة المدن الصينية وتنظيمها، على الرغم من صعوبة التواصل اللغوي والديني في ذلك المحيط غير الإسلامي.

المرحلة السادسة: العودة عبر آسيا الوسطى وبلاد المغول (1346 – 1350م)

عاد ابن بطوطة برًا عبر آسيا الوسطى، فزار سمرقند وبخارى، ودخل أراضي القبيلة الذهبية المغولية، حيث التقى بحكام تتار المسلمين، مثل السلطان أوزبك خان. استمر في الترحال حتى بلغ شبه جزيرة القرم، ومنها انتقل إلى بلاد الروس وأوكرانيا، ثم إلى القسطنطينية، حيث التقى بالإمبراطورة البيزنطية. ومن هناك، شق طريقه نحو المغرب عبر شمال إفريقيا.

المرحلة السابعة: الأندلس والسودان والعودة إلى المغرب (1350 – 1354م)

رغم أنه كان قد استقر مؤقتًا في المغرب، إلا أن شغفه بالترحال لم يهدأ، فانطلق في رحلة قصيرة نسبيًا إلى الأندلس، حيث زار غرناطة. وبعدها، توجّه جنوبًا إلى إفريقيا جنوب الصحراء، مرورًا بتومبكتو في مالي، حيث اندهش من الحضارة التي بناها ملوك مالي المسلمين، ومن التنظيم الاجتماعي المتطور في هذه المملكة الصحراوية.

عاد ابن بطوطة أخيرًا إلى مدينة فاس بالمغرب عام 1354م، حيث استقر بشكل نهائي، بعد أن أمضى 29 عامًا كاملة من الترحال المستمر، في رحلات غير مسبوقة من حيث المدى الجغرافي والثقافي.

أعماله وتوثيق رحلاته

بأمر من السلطان المريني “أبو عنان فارس”، أُمليت رحلات ابن بطوطة على الكاتب محمد بن جزي الكلبي، في عمل بعنوان “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، والمعروف اختصارًا باسم “رحلة ابن بطوطة”. يشكّل هذا الكتاب وثيقةً تاريخيةً وجغرافيةً نادرة، ليس فقط لأنه يغطي مناطق واسعة من العالم القديم، بل لأنه يُعدّ مرآةً للحياة الاجتماعية والدينية والسياسية في القرن الرابع عشر.

تميز أسلوب ابن بطوطة بالدقة في وصف العادات والتقاليد، والقدرة على رصد الفوارق الحضارية بين المناطق، كما أظهر معرفة واسعة بالفقه الإسلامي والشؤون الإدارية، وهو ما جعله محط ترحيب وتقدير لدى ملوك وسلاطين العالم الإسلامي. ومن المثير للإعجاب أن معظم رحلاته تمّت في فترة شهدت اضطرابات سياسية وأوبئة مثل الطاعون، ما يزيد من أهمية الإنجاز الذي حققه.

أثر رحلاته في المعرفة الجغرافية والتاريخية

يشكل ما وثّقه ابن بطوطة مصدرًا هامًا لفهم الحياة الإسلامية في العصور الوسطى، وخصوصًا في البلدان التي لم تكن قد دخلت بعد دائرة التأريخ المكتوب بشكل موسع. فعلى سبيل المثال، ما رواه عن شرق إفريقيا وبلاد جنوب الصحراء يُعد من أوائل التوثيقات التي نقلت تفاصيل دقيقة عن هذه المناطق. كما أن وصفه للتنظيم السياسي في الهند والصين يضاهي في دقته ما سجله الجغرافيون الأوروبيون بعد قرون.

جدول يوضح أبرز محطات ابن بطوطة وتواريخها التقريبية

وفاته وإرثه

توفي ابن بطوطة في مدينة فاس المغربية حوالي عام 1377م، عن عمر يناهز 73 عامًا. لم يكن في زمانه يعلم أن رحلته ستصبح إحدى أعظم المغامرات البشرية المسجلة، وأنه سيخلّد في كتب الجغرافيا والتاريخ كأشهر رحالة في الحضارة الإسلامية. فقد ألهمت كتاباته أجيالًا من الجغرافيين والمستكشفين، وكان لها أثرٌ بالغ في التوثيق العلمي للعالم الإسلامي في عصره.

المصادر والمراجع

1. ابن بطوطة، محمد بن عبد الله. تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. تحقيق: عبد الهادي التازي، دار الغرب الإسلامي.

2. Dunn, Ross E. The Adventures of Ibn Battuta: A Muslim Traveler of the Fourteenth Century. University of California Press.