6 سلوكيات يجب ألا نتغاضى عنها
في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة، ويزداد فيه الضغط الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، بات من الضروري أن نتوقف عند بعض السلوكيات التي قد يراها البعض عادية أو قابلة للتغاضي، بينما هي في الواقع تهدد النسيج الاجتماعي وتفسد العلاقات بين الأفراد والمجتمعات على حد سواء. هذه السلوكيات، وإن بدت بسيطة أو عابرة، فإن تجاهلها يؤدي إلى تراكم الأذى النفسي، وتدهور منظومة القيم، وفقدان الثقة بين الناس، وهو ما يُضعف مناعة المجتمع أمام التحديات.
سنتناول في هذا المقال ستة من هذه السلوكيات الخطيرة، مع تحليل مفصل لأسبابها، وتجلياتها، وآثارها، ولماذا يجب أن نتوقف عن تجاهلها، والعمل على معالجتها على المستوى الفردي والمؤسسي والاجتماعي.
1. التنمر: العنف الهادئ الذي يُفتك في الخفاء
يُعد التنمر من أكثر السلوكيات تدميراً للنفس الإنسانية، ويأخذ أشكالاً متعددة، من بينها التنمر اللفظي والجسدي والالكتروني. لا يقتصر خطر التنمر على الأطفال داخل المدارس فحسب، بل يمتد إلى بيئات العمل، ومواقع التواصل الاجتماعي، والعلاقات الأسرية.
ينشأ التنمر غالباً من بيئة تربوية غير صحية، يتعرض فيها الفرد للقمع أو الإهمال أو المشاهدة المستمرة لسلوكيات عدوانية. وفي مجتمعات لا تضع قوانين صارمة أو لا تمتلك وعيًا مجتمعيًا كافيًا لمحاربة هذه الظاهرة، يتم التطبيع معها تدريجياً، حتى تصبح جزءاً من “الطبيعة البشرية” المقبولة اجتماعياً.
التغاضي عن التنمر يكرّس لثقافة الهيمنة، ويعزز لدى الضحية شعوراً دائمًا بالعار والدونية، ما يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، وقد ينتهي الأمر أحياناً بمحاولات انتحار.
2. التقليل من شأن الآخرين: العدوان المقنّع باسم المزاح أو النقد
يستخدم الكثيرون أسلوب التقليل من الآخرين على أنه “رأي صريح” أو “دعابة”، غير مدركين أن ما يقومون به هو سلوك مؤذٍ يضرب الثقة بالنفس، ويشكّل ضغطاً مستمراً على الطرف الآخر. يتخذ هذا السلوك أشكالاً متعددة، كالتقليل من إنجازات الآخرين، السخرية من مظهرهم، أو التشكيك في قدراتهم العقلية والعملية.
الخطورة في هذا السلوك تكمن في طبيعته الخفيّة، فهو لا يُصنّف مباشرة كإهانة، لكنه يترك أثراً داخلياً عميقاً. وغالباً ما يُبرّر هذا التصرف بـ “حسن النية”، ما يجعل الضحية في حيرة من أمرها: هل تُعبّر عن انزعاجها فتُتّهم بالحساسية المفرطة؟ أم تصمت وتتحمل الألم بصمت؟
إن تجاهل هذا السلوك يجعل الأفراد يعيشون في بيئات سامة، تتآكل فيها مشاعر الاحترام والتقدير، ويؤسس لثقافة احتقار الآخر بشكل ناعم ومستتر.
3. اللامبالاة بمشاعر الآخرين: غياب التعاطف الاجتماعي
من أسوأ ما يمكن أن يمارسه الإنسان هو اللامبالاة بمشاعر الآخرين، خصوصاً في لحظات ضعفهم أو معاناتهم. حين يُصاب أحدهم بفقد أو خيبة أو ضيق، يحتاج إلى محيط يشعر معه بالأمان العاطفي، لا إلى ردود سطحية جافة أو تجاهل تام لمعاناته.
يتجلى هذا السلوك بشكل واضح في العلاقات العائلية، حيث قد يُهمَل الحزن، أو يُقلل من شأنه، أو يُعتبر “مبالغة” لا داعي لها. وكذلك في بيئات العمل التي تفتقر إلى ثقافة التعاطف المهني، يُنظر إلى المتاعب الشخصية كعائق أو ضعف.
غياب التعاطف يفكك الروابط الإنسانية، ويدفع الأفراد نحو العزلة أو العدوانية. إنه سلوك يقتل الشعور بالانتماء ويقضي على أساسات المجتمعات الصحية.
4. التدخل في الخصوصيات: سلوك مغلّف بالاهتمام
يُعتبر التدخل في خصوصيات الآخرين من أكثر السلوكيات انتهاكًا للكرامة الشخصية، رغم أن بعض المجتمعات تراه نوعاً من الاهتمام أو “الحرص”. لكن الواقع يؤكد أن تجاوز الحدود الشخصية، والسؤال عن تفاصيل لا تعني السائل في شيء، يؤدي إلى إزعاج نفسي عميق.
في العالم العربي، كثيراً ما يُطرح على الأفراد أسئلة حساسة تخص الراتب، الزواج، الإنجاب، الصحة، أو حتى المعتقدات، دون مراعاة للخصوصية أو مشاعر الطرف الآخر. يُعتقد خطأً أن الفضول حق اجتماعي، رغم أن الحدود الشخصية هي من أقدس القيم التي تحفظ الاحترام المتبادل.
التغاضي عن هذا السلوك يجعل التدخل في حياة الآخرين أمراً عادياً، ويفتح الباب أمام الفضائح والإشاعات، ويقتل الشعور بالأمان داخل الدوائر الاجتماعية.
5. نشر السلبية والتشاؤم: العدوى النفسية التي تنتشر بلا صوت
البعض ينشر السلبية دون قصد، عبر التذمر الدائم، أو سرد الأخبار السيئة، أو التقليل من أحلام الآخرين تحت مسمى “الواقعية”. هذا النوع من السلوك يؤثر بشكل مباشر على الصحة النفسية للمحيطين، ويُشعرهم بالإرهاق العاطفي.
في بيئة يُسيطر عليها الأشخاص السلبيون، يصبح التفاؤل سلوكاً غير منطقي، وتُخنق المبادرات، ويُنظر إلى الطموح على أنه “سذاجة”. إنها بيئة خصبة للفشل، والانكماش، وتكريس عقدة النقص.
لا يجب التغاضي عن هذا السلوك لأنه يفرغ البيئة من طاقتها الإيجابية، ويدفع الأفراد إلى الكسل والاستسلام، ويهدد الإنتاجية على كل المستويات.
6. التجاهل المتعمد: الإساءة الصامتة في العلاقات الشخصية
التجاهل المتعمد، أو ما يُعرف بـ “التلاعب الصامت” (Silent Treatment)، هو سلوك عقابي يمارسه البعض للسيطرة على الطرف الآخر، أو للتعبير عن الغضب بطريقة غير ناضجة. قد يكون هذا في العلاقات الزوجية، أو بين الأصدقاء، أو حتى بين الزملاء.
هذا التجاهل يُعد نوعًا من العنف العاطفي، لما فيه من إيذاء نفسي، وخلق شعور بالذنب أو الحيرة لدى الضحية. إن تجاهل شخص عن قصد، رغم وجود وسيلة للتواصل، يُحدث جرحاً داخلياً لا يُشفى بسهولة.
التغاضي عن هذا السلوك يُمهّد الطريق أمام علاقات غير متكافئة، تعتمد على السيطرة العاطفية، وتنشئ جدراناً من الصمت والبرد العاطفي، بدلًا من الحوار والنضج في حل المشكلات.
الآثار العامة لتجاهل هذه السلوكيات
تجاهل مثل هذه السلوكيات ليس فقط خطأ تربوي أو أخلاقي، بل هو أيضاً مشكلة بنيوية تؤثر على استقرار المجتمعات. الأفراد الذين ينشأون في بيئات تتسامح مع التنمر أو التقليل من الآخرين، أو تتغاضى عن التدخل في الخصوصيات أو نشر السلبية، غالباً ما يعانون من اضطرابات نفسية، ويصعب عليهم بناء علاقات صحية متوازنة.
على مستوى أوسع، تؤدي هذه السلوكيات إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وخلق أجيال غير قادرة على التعبير عن مشاعرها، أو الدفاع عن حدودها، أو التعامل مع الآخرين باحترام. كما أنها تضعف حس المسؤولية، وتفتح الباب أمام العنف بمختلف أنواعه.
خاتمة تحليلية
في ضوء ما سبق، يتبيّن أن السلوكيات الستة المذكورة ليست مجرد تصرفات فردية عابرة، بل هي ممارسات تؤثر عميقاً على الصحة النفسية والعلاقات الإنسانية والمجتمعية. إن معالجتها تبدأ بالوعي بخطورتها، والاعتراف بأثرها، ثم بناء ثقافة تقوم على احترام الآخر، والتعاطف، والوضوح في العلاقات، والجرأة في رفض السلوك المؤذي.
السلوكيات التي نتغاضى عنها اليوم، قد تتحول إلى أعراف مقبولة غداً، وهو ما يهدد القيم الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات السليمة. من هنا، فإن رفض التطبيع مع السلوكيات المؤذية هو مسؤولية أخلاقية وتربوية لا بد أن يضطلع بها الأفراد والمؤسسات على حد سواء.
المراجع:
-
Baumeister, R. F., & Leary, M. R. (1995). The need to belong: Desire for interpersonal attachments as a fundamental human motivation. Psychological Bulletin, 117(3), 497–529.
-
Olweus, D. (1993). Bullying at School: What We Know and What We Can Do. Blackwell Publishers.
