التأثير السلبي للفضائيات على سلوكيات المشاهد العربي

شهد العالم العربي منذ نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين طفرة إعلامية غير مسبوقة تمثلت في انتشار القنوات الفضائية وتعددها، بحيث أصبحت تغزو كل بيت وتسيطر على أذهان ملايين المشاهدين. وقد ترافق هذا الانفتاح الإعلامي الواسع مع تحولات اجتماعية وثقافية عميقة، بعضها إيجابي، بينما كان للجانب السلبي منه نصيب كبير في تشكيل سلوكيات المشاهد العربي، خصوصًا مع غياب الرقابة الفعالة، وانعدام المعايير الأخلاقية في كثير من المحتويات المعروضة، وتضارب الأجندات السياسية والثقافية للقنوات المختلفة.

يتناول هذا المقال الأثر السلبي الذي تتركه القنوات الفضائية على سلوك المشاهد العربي من خلال تفصيل أهم المظاهر السلوكية المتأثرة، وتسليط الضوء على العوامل التي فاقمت هذا التأثير، مستندًا إلى دراسات ميدانية وأبحاث علمية وملاحظات اجتماعية موثقة.

أولًا: انحسار القيم الاجتماعية والأخلاقية

من أبرز التأثيرات السلبية للفضائيات أنها ساهمت في تآكل منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمعات العربية. فالعديد من القنوات الفضائية، لا سيما الترفيهية منها، تقدم نماذج حياتية لا تمت بصلة للواقع العربي من حيث القيم، وتروّج لنمط حياة استهلاكي وغربي يركز على المظاهر، العلاقات المفتوحة، الحرية المطلقة، والانفلات من الضوابط الأسرية والدينية. هذه القيم المتلفزة، عندما تُعرض باستمرار، تؤثر في سلوك المشاهدين، وخصوصًا فئة الشباب، حيث تؤدي إلى التشكيك في صلاحية القيم التقليدية، والانبهار بالنموذج الأجنبي، وتقليده دون وعي نقدي.

جدول: مقارنة بين بعض القيم التقليدية والمروجة في الفضائيات

ثانيًا: التطبيع مع العنف والعدوانية

أظهرت العديد من الدراسات النفسية أن التعرض المستمر لمشاهد العنف في البرامج التلفزيونية، خاصة في المسلسلات والأفلام، يؤدي إلى ما يُعرف بـ “التطبيع مع العنف”، أي فقدان الحساسية تجاهه، بل وفي بعض الأحيان، تقليده بوصفه سلوكًا مقبولًا. وهذا ما لاحظته العديد من المجتمعات العربية، حيث ارتفعت وتيرة العنف المدرسي والعنف الأسري بين أفراد المجتمع، لا سيما بين المراهقين الذين يشاهدون برامج تتضمن مشاهد قتالية أو جرائم يُروّج لها باعتبارها وسيلة للبطولة أو استرداد الكرامة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المحتوى الأجنبي فقط، بل امتدت إلى الإنتاج الدرامي العربي نفسه، حيث باتت العديد من المسلسلات تتضمن عنفًا لفظيًا وجسديًا مفرطًا، يُقدَّم أحيانًا في سياق درامي مثير، دون إدراك لحجم الأثر النفسي والتربوي الذي يُحدثه هذا على المشاهد.

ثالثًا: تشويه الهوية الثقافية واللغوية

تمثل اللغة والهوية الثقافية ركيزتين أساسيتين في بناء شخصية الإنسان وانتمائه. غير أن القنوات الفضائية ساهمت في إضعاف هذه الركائز من خلال نشر محتويات تُهمّش اللغة العربية الفصحى، وتروّج للهجات هجينة أو لغات أجنبية، كما في المسلسلات المدبلجة أو البرامج الواقعية، مما أضعف مكانة اللغة العربية في وعي الجيل الجديد.

كما أن مضامين البرامج المستوردة تروج لعادات وتقاليد بعيدة كل البعد عن التراث العربي، مما يؤدي تدريجيًا إلى فقدان المشاهد لثقته في تراثه الحضاري، واستبداله بقيم دخيلة لا تنسجم مع البيئة الاجتماعية والدينية للمجتمعات العربية. وهذا ما ينذر بخطر تآكل الهوية الثقافية وتفكك الروابط المشتركة التي توحد الشعوب العربية.

رابعًا: الترويج للاستهلاك والمظاهر

ترسخ القنوات الفضائية، من خلال الإعلانات والمسلسلات وبرامج الواقع، ثقافة الاستهلاك والبحث المستمر عن المظهر على حساب الجوهر. إذ يتم تصوير النجاح والسعادة على أنهما مرتبطان بامتلاك السيارات الفاخرة، والهواتف الذكية، والملابس الغالية، والمظهر الخارجي المتكلف. هذه الرسائل تؤدي إلى خلق شعور دائم بالنقص لدى المتلقين، خصوصًا من الفئات ذات الدخل المحدود، وتدفع بعضهم إلى سلوكيات غير مشروعة بغية الوصول إلى هذا النموذج المصطنع من النجاح.

وقد لوحظ أن هذه الثقافة الاستهلاكية أثرت بشكل خاص على المراهقين والشباب، الذين أصبحوا يربطون بين القبول الاجتماعي والقدرة على اقتناء علامات تجارية محددة، وهو ما يعزز القيم السطحية وينسف مفاهيم القناعة والعمل والاجتهاد.

خامسًا: التغييب العقلي والترفيه المفرط

الفضائيات تسهم بشكل كبير في تسطيح الفكر وتغييب الوعي، من خلال التركيز على البرامج الترفيهية والسطحية، وتهميش البرامج الثقافية والتوعوية. فبدلًا من أن تكون أداة للارتقاء بالعقل الجمعي للمجتمع، تحوّلت القنوات الفضائية في أغلبها إلى أدوات ترويج للتسلية المفرطة التي تُضعف ملكة التفكير النقدي، وتُكرّس السلبية والانسحاب من الواقع.

وقد رصدت دراسات ميدانية أن فئة كبيرة من الجمهور العربي، وخصوصًا الشباب، يقضون ساعات طويلة يوميًا في مشاهدة برامج لا تضيف إلى معرفتهم شيئًا، بل تكرس لديهم مفاهيم مغلوطة عن الحياة والنجاح والعلاقات. وتؤدي هذه الحالة إلى ما يُعرف بـ “الكسل الثقافي”، حيث يبتعد الفرد عن القراءة، والمشاركة الاجتماعية، وتطوير الذات.

سادسًا: التأثير على العلاقات الأسرية والاجتماعية

أسهمت الفضائيات في خلق عزلة داخل الأسرة العربية، حيث أصبح كل فرد يعيش في عالمه الخاص أمام شاشة التلفاز أو الهاتف، يتابع محتوى لا يشاركه فيه الآخرون، ما أدى إلى تراجع الحوار الأسري والتواصل بين الأجيال. كما أن المضامين الإعلامية تُقدّم صورة مثالية عن العلاقات العاطفية والزوجية، ما يُفضي إلى خلق توقعات غير واقعية، تؤدي في كثير من الأحيان إلى تفاقم المشاكل الأسرية وانعدام الرضا.

علاوة على ذلك، فإن البرامج الحوارية القائمة على الجدال وغياب آداب النقاش تؤثر في نمط الحديث داخل البيوت والمجتمع، إذ تُغرس في ذهن المشاهد أن رفع الصوت والمقاطعة والسخرية هي وسائل مشروعة للتعبير عن الرأي، مما يضعف من ثقافة الاستماع والتسامح.

سابعًا: التوجيه الأيديولوجي والتأثير السياسي

لا يمكن تجاهل الجانب الأيديولوجي في كثير من القنوات الفضائية، خاصة تلك التابعة لجهات سياسية أو طائفية أو دينية متشددة. حيث تعمل هذه القنوات على توجيه الرأي العام وفق أجنداتها، وتسعى إلى خلق انقسامات بين أفراد المجتمع، من خلال بث خطاب الكراهية أو التأجيج الطائفي والمناطقي، ما يؤثر على وحدة المجتمعات وتماسكها.

وتؤثر هذه المضامين على المشاهد العربي البسيط الذي قد يفتقر إلى أدوات التمييز والتحليل، مما يجعله عرضة للتأثر العاطفي والانخراط في مواقف أو تصورات متطرفة قد لا تخدم الصالح العام، بل تؤدي إلى الفوضى والانقسام.

ثامنًا: إضعاف المناعة النفسية وزيادة القلق

من الأضرار النفسية التي تسببها الفضائيات، هو تعريض المشاهد بشكل يومي لفيض من الأخبار السلبية، والحوادث، والكوارث، والأزمات السياسية والاقتصادية، ما يخلق لديه حالة من القلق المستمر والشعور بانعدام الأمان. كما أن برامج “الواقعية” التي تُظهر حياة الترف والغنى تزرع في نفس المشاهد مشاعر الحسد والإحباط، لا سيما إذا كان يعيش في ظروف معيشية صعبة.

وتشير تقارير نفسية إلى ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب بين الشباب في بعض الدول العربية، ما يُعزى جزئيًا إلى الضغط النفسي الناتج عن المقارنات المستمرة مع ما يُعرض في الفضائيات، وإلى شعور الفشل في تحقيق هذه الصور المثالية.

خاتمة

الفضائيات، بما تحمله من محتوى متنوع وأدوات تأثير قوية، أصبحت لاعبًا أساسيًا في تشكيل سلوكيات المجتمعات العربية، خصوصًا في ظل ضعف المؤسسات التعليمية والتربوية، وضعف الرقابة الإعلامية. وإذا كان من الضروري الاعتراف بأن الفضائيات يمكن أن تكون وسيلة تنوير وتثقيف إذا ما استُغلت بشكل إيجابي، فإن الواقع يظهر أن الجانب السلبي منها أصبح يطغى على المشهد، ويؤثر بعمق في القيم، والسلوك، والعلاقات، والهوية.

إن الحاجة باتت ملحة لإعادة النظر في السياسات الإعلامية، وتفعيل دور الأسرة، والمدرسة، والمجتمع المدني في توعية الأفراد، وبناء مناعة فكرية وثقافية قادرة على التمييز بين الغث والسمين، وبين التسلية الهادفة والانحلال المقنّع، من أجل حماية الفرد العربي من الوقوع في فخاخ الفضائيات الموجهة، واستعادة التوازن الأخلاقي والثقافي لمجتمعاتنا.

المراجع

• علي، عبد الرحمن. (2016). وسائل الإعلام وسلوكيات الشباب. دار الفكر العربي، القاهرة.

• طه، زينب. (2020). الفضائيات وأثرها على القيم الاجتماعية في المجتمعات العربية. المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، بيروت.