سلامة الصحفيين في الحروب

في عالم متشابك تتنامى فيه وتيرة النزاعات المسلحة والصراعات الدولية، يبرز دور الصحفيين كركيزة أساسية لنقل الحقيقة وتوثيق الأحداث، في بيئات غالباً ما تكون مميتة وغير آمنة. إذ أصبح الصحفيون، في كثير من الأحيان، أهدافاً مباشرة في مسارح الحروب، ما يضع حياتهم تحت التهديد الدائم ويقوّض قدرة المجتمعات الدولية على الوصول إلى معلومات مستقلة وموثوقة. وعلى الرغم من وجود اتفاقيات دولية ومعاهدات تحمي العاملين في المجال الإعلامي، إلا أن التحديات الميدانية والانتهاكات المستمرة تسلط الضوء على هشاشة هذه الحماية وضرورة تعزيزها من خلال آليات تنفيذية أكثر فاعلية.

الإطار القانوني الدولي لحماية الصحفيين

تتمثل الأسس القانونية لحماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة في عدد من الاتفاقيات الدولية، أبرزها اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، التي تُعد المرجع الأساسي في القانون الدولي الإنساني. وفقاً للبروتوكول الإضافي الأول، يُعتبر الصحفيون الذين يزاولون مهنتهم في مناطق النزاع مدنيين ويجب احترامهم وحمايتهم طالما لا يشاركون في الأعمال العدائية. كما يلتزم أطراف النزاع بعدم استهدافهم وتوفير الضمانات الكفيلة بحمايتهم.

وتؤكد قرارات مجلس الأمن، خاصة القرار رقم 2222 (2015)، على أهمية توفير الحماية للصحفيين، واعتبار الهجمات الممنهجة ضدهم انتهاكاً للقانون الدولي. كما تسلط المنظمات الدولية، مثل اليونسكو ولجنة حماية الصحفيين ومراسلون بلا حدود، الضوء بشكل مستمر على الانتهاكات وتعمل على توثيقها ومحاسبة مرتكبيها.

واقع المخاطر الميدانية والانتهاكات

على الرغم من هذا الإطار القانوني، فإن الواقع الميداني يُظهر هشاشة الحماية المقررة. ففي النزاعات المسلحة غير الدولية، كما في سوريا واليمن والسودان، غالباً ما يجد الصحفيون أنفسهم بين نيران متقاطعة، يُستهدفون بالقصف أو بالاغتيال أو يُعتقلون ويُعذَّبون على أيدي مختلف الأطراف.

تشير الإحصائيات إلى أن مئات الصحفيين فقدوا حياتهم خلال العقدين الماضيين أثناء تغطيتهم للصراعات المسلحة. كما يتم استخدام الإعلام كأداة دعائية، ما يجعل من الصحفي المستقل خصماً للجهات المتحاربة، سواء كانت حكومات أو ميليشيات أو جماعات إرهابية.

الاستهداف الممنهج للصحفيين

يُعد الاستهداف المتعمد للصحفيين أحد أبرز التحديات في النزاعات الحديثة، لا سيما في الحروب الأهلية أو النزاعات ذات الطابع الديني أو العرقي، حيث يتم اتهام الصحفيين بالتجسس أو التعاون مع العدو، ما يجعلهم عرضة للاعتقال أو التصفية الجسدية. وغالباً ما يتعرض الصحفيون العاملون مع وسائل إعلام أجنبية أو المنصات المستقلة لمضاعفة المخاطر بسبب غياب الحماية الدبلوماسية أو الرسمية.

من بين أبرز الأمثلة، ما حدث في العراق وسوريا من قتل واختطاف للصحفيين من قبل تنظيمات متطرفة، واستخدامهم كورقة ضغط أو دعاية إعلامية، كما حدث مع تنظيم “داعش” في تسجيلات الإعدام الوحشية لصحفيين غربيين.

الصحفيات في بيئات النزاع

تواجه الصحفيات تحديات إضافية تتعلق بالعنف الجنسي، والتحرش، والتمييز القائم على النوع الاجتماعي، إلى جانب التهديدات العامة التي تطال الصحفيين بشكل عام. ويُسجل في كثير من الحالات استهداف النساء الصحفيات تحديداً بسبب تأثير تغطيتهن وجرأتهن في توثيق الانتهاكات، كما يُنظر إليهن أحياناً كتهديد مضاعف للسلطة الذكورية أو الأيديولوجية السائدة في مناطق النزاع.

مسؤولية الحكومات والأطراف المسلحة

تتحمل الحكومات الوطنية والجماعات المسلحة على حد سواء مسؤولية احترام القانون الدولي الإنساني وضمان حماية الصحفيين. في كثير من الحالات، تتغاضى الحكومات عن الانتهاكات أو تشارك فيها بصورة مباشرة، وهو ما يفاقم الأزمة ويزيد من مناخ الإفلات من العقاب.

وتتمثل إحدى أبرز العقبات في غياب المحاسبة القانونية للانتهاكات المرتكبة ضد الصحفيين، حيث يتم تقييد الوصول إلى مناطق النزاع، وعرقلة التحقيقات المستقلة، أو إخفاء الأدلة، مما يصعب على المنظمات الحقوقية توثيق الجرائم وملاحقة المسؤولين عنها.

الجهود الدولية ومنظمات الحماية

تلعب منظمات دولية ومحلية دوراً محورياً في دعم سلامة الصحفيين وتوفير أدوات الحماية اللازمة. ومن بين هذه الجهود:

• برامج الحماية الميدانية: تقدم بعض المنظمات تدريبات مهنية للصحفيين على كيفية التعامل مع بيئات النزاع واستخدام أدوات الحماية الشخصية.

• شبكات الأمان الرقمي: تُعنى بعض المؤسسات بحماية الصحفيين من التهديدات الإلكترونية التي قد تؤدي إلى تعقب مواقعهم أو تسريب معلوماتهم.

• برامج اللجوء والمنفى الآمن: توفر بعض الدول والمنظمات إمكانيات نقل الصحفيين المهددين إلى مناطق أكثر أماناً، خاصة في الحالات العاجلة.

الحماية الرقمية وتهديدات العصر الحديث

في ظل تصاعد استخدام التكنولوجيا في النزاعات، أصبحت الهجمات الإلكترونية والاختراقات الرقمية وسيلة جديدة لاستهداف الصحفيين. ويمكن تعقب اتصالاتهم، ومراقبة تحركاتهم، بل وحتى التلاعب بالمحتوى الذي ينشرونه. ولهذا، بات من الضروري تطوير أدوات وتقنيات رقمية تساعد الصحفيين على حماية خصوصيتهم ومصادرهم الصحفية.

الحاجة إلى آليات إنفاذ فعالة

رغم أن القوانين موجودة، إلا أن غياب آليات تنفيذ فعالة يجعل من هذه النصوص حبراً على ورق في كثير من الأحيان. وهنا تبرز أهمية إنشاء هيئات دولية مستقلة لديها صلاحيات فرض عقوبات على الجهات المنتهكة، وتوثيق الحالات بطريقة منهجية ومعترف بها قانونياً.

وتبرز دعوات عديدة لتوسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل الانتهاكات الممنهجة ضد الصحفيين، وتسهيل آليات رفع الشكاوى الدولية من قبل أسر الضحايا أو منظمات حقوق الإنسان.

توثيق الانتهاكات ودور الإعلام الحر

يمثل توثيق الانتهاكات ضد الصحفيين في مناطق النزاع خطوة جوهرية في سبيل مكافحة الإفلات من العقاب. فكل حادثة موثقة بشكل دقيق يمكن أن تكون مقدمة لفتح تحقيقات دولية وملاحقات قانونية. وفي هذا الإطار، تلعب وسائل الإعلام الحرة ومنصات التحقيق الاستقصائي دوراً محورياً في فضح الجرائم والتجاوزات، خصوصاً حين تتواطأ السلطات المحلية في إخفاء الأدلة.

جدول يوضح بعض الانتهاكات البارزة بحق الصحفيين في النزاعات المسلحة

تعزيز ثقافة السلامة لدى الصحفيين

تعتمد سلامة الصحفيين في النهاية أيضاً على الوعي المهني والاستعداد الذاتي. ينبغي على المؤسسات الإعلامية تبني سياسات حماية صارمة وتدريبات متقدمة تتعلق بالإسعافات الأولية، والوعي الأمني، وتقدير المخاطر. كما يجب تشجيع ثقافة السلامة النفسية، حيث إن الصحفيين في مناطق النزاع معرضون لصدمات نفسية مزمنة تؤثر على أدائهم وسلامتهم على المدى الطويل.

أهمية الإعلام المستقل في بناء السلم

تلعب الصحافة دوراً محورياً في فضح جرائم الحرب والانتهاكات، وكشف الأكاذيب الدعائية، وتعزيز الوعي العام العالمي بالقضايا الإنسانية. ومن دون وجود صحفيين مستقلين في مناطق النزاع، تُطمس الحقائق وتُفقد المجتمعات أدواتها لمساءلة الفاعلين. لهذا، فإن حماية الصحفيين ليست مجرد مسألة أخلاقية، بل قضية متعلقة ببنية النظام العالمي العادل والشفاف.

خاتمة

إن حماية الصحفيين أثناء النزاعات المسلحة لا يجب أن تُختزل في نصوص قانونية أو شعارات تضامنية، بل يجب أن تُترجم إلى آليات فعلية، وشبكات دعم متكاملة، واستجابة دولية حازمة تجاه كل انتهاك. فبقاء الصحافة الحرة في قلب النزاع هو ما يضمن استمرار صوت الضحايا، ويحفظ الحقيقة من الغرق في ضجيج البروباغندا والرقابة.

المراجع:

• اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية (اللجنة الدولية للصليب الأحمر)

• قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 1738 و2222

• تقارير منظمة مراسلون بلا حدود (RSF)

• تقارير لجنة حماية الصحفيين (CPJ)

• قاعدة بيانات “قتلى الصحفيين” – اليونسكو

• “Safety of Journalists: A Responsibility for All” – UNESCO Policy Paper

• “Journalists under Fire” – International Federation of Journalists (IFJ)