سعد الدين العثماني: سيرة سياسية وفكرية شاملة

مقدمة

يُعد سعد الدين العثماني واحداً من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية في المغرب الحديث، حيث استطاع أن يجمع بين العمل السياسي، والتكوين الأكاديمي، والنشاط الفكري، في مسار طويل يمتد لعقود. برز اسمه على الساحة السياسية المغربية في سياقات متعددة، من العمل البرلماني إلى قيادة الحكومة، مروراً بإسهاماته الفكرية في الحقل الإسلامي والفلسفي. تميز العثماني بقدرته على المزج بين الانضباط الحزبي والمرونة السياسية، وبين خلفيته الأكاديمية في الطب النفسي والفكر الإسلامي، ما منحه موقعاً مميزاً ضمن نُخَب النضال السياسي في المغرب.

النشأة والتكوين العلمي

وُلد سعد الدين العثماني يوم 16 يناير 1956 في مدينة إنزكان، جنوب المغرب، في بيئة محافظة ومهتمة بالتعليم الديني والعصري. ينتمي إلى عائلة أمازيغية عرفت بحبها للعلم والدين، وهو ما كان له بالغ الأثر في تكوينه العلمي والروحي في وقت مبكر. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في إنزكان قبل أن ينتقل إلى الدار البيضاء لاستكمال دراسته الجامعية.

حصل العثماني على شهادة البكالوريا في العلوم التجريبية سنة 1976، ثم واصل دراسته في كلية الطب والصيدلة بالدار البيضاء، حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الطب العام سنة 1986، ثم تخصص في الطب النفسي، ليحصل لاحقاً على دبلوم الدراسات العليا في الطب النفسي من جامعة محمد الخامس بالرباط.

لم تقتصر مسيرته التعليمية على الطب فحسب، فقد حصل أيضاً على إجازة في الشريعة الإسلامية من جامعة ابن يوسف في مراكش سنة 1983، ثم دبلوم الدراسات العليا في الفقه وأصوله سنة 1987. هذا التكوين المزدوج في العلوم الطبية والشرعية كان نادراً ويعكس تعددية في الاهتمامات والقدرات.

التكوين الفكري والانخراط في الحقل الدعوي

شكلت سنوات الدراسة الجامعية فترة خصبة لنضوج الفكر الإسلامي لدى سعد الدين العثماني، فقد انخرط في العمل الدعوي الإسلامي منذ بداياته، متأثراً بأدبيات الحركات الإسلامية التجديدية. كان عضواً نشطاً في الجمعية المغربية لطب النفس، كما انخرط في العمل التربوي والدعوي في إطار حركة التوحيد والإصلاح، وهي إحدى أكبر الحركات الإسلامية في المغرب، التي مثلت الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية لاحقاً.

نشر العثماني العديد من المقالات والدراسات الفكرية التي تمحورت حول قضايا العقيدة والفكر الإسلامي والتجديد الديني، كما شارك في عدة ندوات ومؤتمرات فكرية داخل المغرب وخارجه، وكان من المدافعين عن ضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والانفتاح على العلوم الحديثة دون التفريط في الثوابت الدينية.

النشاط الحزبي والسياسي

البدايات السياسية

دخل سعد الدين العثماني معترك السياسة من بوابة حزب العدالة والتنمية، الذي انبثق عن حركة الإصلاح والتجديد، إثر اندماجها مع حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية الذي أسسه الدكتور عبد الكريم الخطيب. انضم العثماني إلى الحزب في تسعينيات القرن العشرين، وسرعان ما أصبح من أبرز قياداته نظراً لتكوينه الفكري المتين وشخصيته الهادئة والمتوازنة.

انتُخب نائباً برلمانياً عن دائرة إنزكان أيت ملول في انتخابات 1997، وأعيد انتخابه في دورات لاحقة، حيث لعب دوراً محورياً في العمل التشريعي، خاصة في مجالات الصحة والتعليم والقضايا الأخلاقية.

تولي الأمانة العامة للحزب

تولى العثماني الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية سنة 2004 خلفاً لعبد الكريم الخطيب، وظل في هذا المنصب حتى 2008 حين خلفه عبد الإله بنكيران. خلال هذه الفترة، شهد الحزب نقلة نوعية في تنظيمه الداخلي وتوسيع قاعدته الجماهيرية، وحقق نتائج انتخابية متقدمة، مما عزز مكانته في المشهد السياسي المغربي.

وزارة الخارجية

في حكومة عبد الإله بنكيران التي تشكلت بعد انتخابات 2011، عُين سعد الدين العثماني وزيراً للشؤون الخارجية والتعاون، وهي فترة اتسمت بالتحولات الإقليمية الكبرى في ظل ما يعرف بـ”الربيع العربي”. تميزت فترته في الوزارة بالهدوء والاتزان في إدارة الدبلوماسية المغربية، وحرص على تعزيز علاقات المغرب بالدول الإفريقية والعربية والغربية، وكرّس جهوده للدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة في المحافل الدولية.

رئاسة الحكومة (2017–2021)

أدى إعفاء عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة بعد أزمة “البلوكاج السياسي” إلى تعيين سعد الدين العثماني رئيساً للحكومة في مارس 2017. كانت هذه المرحلة من أصعب المراحل في تاريخ الحزب والحكومة، حيث اضطر العثماني إلى الدخول في تحالف مع أحزاب لم يكن بينها توافق سياسي كبير، مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو ما خلف جدلاً واسعاً داخل الحزب.

أبرز إنجازات الحكومة

رغم الظروف الصعبة التي أحاطت بتشكيل الحكومة، إلا أن فترة رئاسة العثماني شهدت عدداً من الإصلاحات والتحديات، من بينها:

• إصلاح منظومة التعليم من خلال إقرار القانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين.

• التغطية الصحية للمهنيين وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية.

• تنزيل ورش الجهوية المتقدمة وتعزيز التنمية المحلية.

• تدبير جائحة كوفيد-19، حيث قاد حكومته في واحدة من أصعب الفترات الوبائية في تاريخ المغرب، وتم اتخاذ قرارات حاسمة مثل فرض الحجر الصحي، ودعم الأسر المتضررة، وإطلاق برنامج التلقيح الوطني الذي كان من الأكثر تنظيماً في إفريقيا.

الانتقادات والتحديات

رغم هذه الإنجازات، وُجهت لحكومته العديد من الانتقادات، خاصة فيما يتعلق بالتواصل السياسي، وتعاملها مع احتجاجات الريف وجرادة، والقرارات الاقتصادية التي اعتُبرت مجحفة من طرف بعض الفئات الاجتماعية. كما تراجعت شعبية الحزب في نهاية ولايته، وظهر ذلك جلياً في نتائج انتخابات 2021 التي مني فيها الحزب بهزيمة قاسية، حيث فقد معظم مقاعده في البرلمان.

الجانب الفكري والعلمي

لسعد الدين العثماني العديد من المؤلفات التي تجمع بين الفقه، والفكر الإسلامي، وقضايا التحديث. من أبرز كتبه:

1. مدخل إلى السياسة الشرعية

2. فقه التنزيل

3. في فقه المصلحة

4. مقالات في فقه الإصلاح

5. الطب النفسي: مقاربات إسلامية

تتميز كتاباته بالعمق والتحليل الرصين، وتتناول قضايا الإفتاء، والسياسة الشرعية، وأخلاقيات العمل السياسي، وهو من دعاة التوفيق بين المقاصد الشرعية ومتطلبات العصر الحديث.

الاهتمامات الثقافية واللغوية

يتقن سعد الدين العثماني عدة لغات من بينها الأمازيغية والعربية والفرنسية، وله اهتمام خاص بالثقافة الأمازيغية، وقد دافع عن إدماج اللغة والثقافة الأمازيغية ضمن الهوية الوطنية للمغرب، وأيد الخطوات المتخذة في سبيل ترسيم الأمازيغية وتطوير تدريسها.

كما أبدى اهتماماً ملحوظاً بالمسألة اللغوية عموماً في المغرب، وكان من المدافعين عن اللغة العربية، لكن ضمن رؤية منفتحة لا تعارض التعدد اللغوي، بل تراه إثراءً للهوية المغربية.

دوره بعد مغادرة رئاسة الحكومة

بعد خروجه من رئاسة الحكومة، لم يعتزل العثماني العمل العام، بل عاد إلى ممارسة الطب النفسي، وواصل نشاطه الفكري من خلال إلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات، إلى جانب نشاطه الحزبي الداخلي. ظل حاضراً في الساحة الفكرية والسياسية، معتبراً أن السياسة ليست فقط سلطة، بل خدمة وطنية تمتد مدى الحياة.

كما تم انتخابه رئيساً للمجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية بعد مؤتمر 2021، ما يدل على استمرار مكانته القيادية داخل الحزب، حتى بعد الانتكاسة الانتخابية.

جدول لأبرز المناصب والمسؤوليات التي تقلدها سعد الدين العثماني

الخلاصة

يمثل سعد الدين العثماني نموذجاً فريداً في السياسة المغربية، من خلال مزاوجته بين التكوين العلمي والعمل السياسي والدعوي، وبين العمق الفكري والهدوء البراغماتي في تدبير الشأن العام. وإن اختلفت الآراء حول تجربته في رئاسة الحكومة، فإن بصمته ستظل حاضرة في التاريخ السياسي والفكري للمغرب المعاصر، بفضل إسهاماته المتعددة وسيرته التي تتجاوز المناصب إلى التأثير الثقافي والفكري.

المراجع

• سعد الدين العثماني، فقه التنزيل، دار السلام، الرباط، 2000.

• عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2011.