مفهوم العلم في الإسلام
المقدمة
العلم في الإسلام ليس مجرد وسيلة للمعرفة، بل هو قيمة إيمانية وروحية واجتماعية ترتقي بالإنسان في الدنيا والآخرة. فقد بُني الإسلام منذ اللحظة الأولى على أساس العلم والمعرفة، وارتبط الوحي الإلهي بأول أمر إلهي موجه إلى النبي محمد ﷺ، وهو قوله تعالى: “اقْرَأْ”، ما يشير إلى مركزية العلم في الدين الإسلامي وضرورة طلبه. لقد وضع الإسلام العلم في أعلى مراتب الفضل، وربط بينه وبين الإيمان، وعدّه أحد أركان النهضة الحضارية والإنسانية.
هذا المفهوم الواسع والمتكامل للعلم لم يكن مجرد تنظير فلسفي، بل تَرجمه المسلمون الأوائل في ممارساتهم وسلوكهم فكانوا منارة علمية وحضارية للعالم أجمع. من خلال هذا المقال، سنسلط الضوء على المفهوم الإسلامي للعلم، مكانته، أنواعه، خصائصه، أهدافه، علاقته بالإيمان والعمل، وموقعه في النهضة الإسلامية.
أولًا: التعريف اللغوي والشرعي للعلم
المعنى اللغوي
العلم في اللغة العربية مشتق من مادة “عَلِمَ” التي تدل على المعرفة وإدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا. وهو ضد الجهل، ويُطلق أيضًا على الفهم والتمييز بين الأمور.
المعنى الشرعي
أما في الاصطلاح الشرعي، فإن العلم هو إدراك الشيء على حقيقته بدليل وبرهان، ويشمل العلم بالله وصفاته وأوامره ونواهيه، كما يشمل العلوم التي تقود إلى الخير وتنفع الإنسان في دينه ودنياه.
قال الإمام الشاطبي: “العلم في الشرع هو ما دل عليه الكتاب والسنة من حيث هما كذلك”.
ثانيًا: مكانة العلم في الإسلام
1. ارتباط أول الوحي بالعلم
أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى:
“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [العلق: 1-5].
هذه الآيات تُمثّل المنطلق الأساسي لفهم العلاقة الوثيقة بين الدين والعلم، وتؤكد أن أول خطاب إلهي للرسول الكريم كان دعوة للقراءة والتعلم، مما يرسخ مبدأ أن الإسلام دين علم منذ بدايته.
2. العلم شرط لتحقيق الإيمان الحقيقي
قال الله تعالى:
“إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” [فاطر: 28].
العلم هنا هو طريق الخشية الحقيقية لله، وهي أعلى مراتب الإيمان. وهذا يبيّن أن العلم ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لزيادة الإيمان واليقين.
3. رفع الله مكانة العلماء
قال تعالى:
“يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ” [المجادلة: 11].
ففي هذا النص القرآني دلالة صريحة على تفضيل أهل العلم ورفع منزلتهم في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: أنواع العلم في الإسلام
ينقسم العلم في الإسلام إلى نوعين رئيسيين:
1. العلوم الشرعية
وهي العلوم التي تتعلق بفهم الدين وأحكامه وتشمل:
-
علم التفسير
-
علم الحديث
-
علم الفقه وأصوله
-
علم العقيدة
-
علم السيرة النبوية
-
علوم اللغة العربية، باعتبارها وعاء النص الشرعي.
2. العلوم الكونية (الدنيوية)
وهي العلوم التي تدرس مخلوقات الله وسنن الكون، مثل:
-
الطب
-
الهندسة
-
الفلك
-
الزراعة
-
الرياضيات
-
الفيزياء والكيمياء
وقد شجع الإسلام على تعلم هذه العلوم لأنها تعين على عمارة الأرض وتحقيق الاستخلاف الذي هو وظيفة الإنسان.
رابعًا: خصائص العلم في الإسلام
يمتاز العلم في الإسلام بجملة من الخصائص التي تميزه عن المفاهيم الأخرى:
1. العلم عبادة
طلب العلم عبادة إذا صلحت النية، وابتغي به وجه الله. عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال:
“طلب العلم فريضة على كل مسلم” [رواه ابن ماجه].
2. العلم وسيلة للعمل
العلم في الإسلام لا ينفصل عن العمل، بل لا قيمة للعلم بدون عمل، إذ ورد في الحديث:
“أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه”.
3. العلم سبيل النجاة والهداية
قال تعالى:
“وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا” [طه: 114].
وهذا يدل على أن النبي ﷺ كان مأمورًا بالاستزادة من العلم لما فيه من نور وهداية.
4. العلم متاح للجميع
لم يقيد الإسلام العلم بفئة دون أخرى، بل جعله متاحًا للرجال والنساء، الصغار والكبار، الأحرار والعبيد، وكان النبي ﷺ يُعلم الصحابة ويحثهم على تعليم غيرهم.
خامسًا: أهداف العلم في الإسلام
العلم في الإسلام له أهداف سامية تتجاوز حدود المعرفة التقنية إلى غايات روحية وإنسانية:
| الهدف | الشرح |
|---|---|
| معرفة الله | العلم وسيلة للتعرف على صفات الله وآياته في النفس والكون. |
| الهداية والاستقامة | العلم يعصم الإنسان من الضلال والبدع. |
| تعمير الأرض | الإنسان مستخلف في الأرض، والعلم يعينه على أداء مهمته. |
| تحقيق العدل | العلم الشرعي يضمن إقامة العدل بين الناس والبعد عن الظلم. |
| بناء الحضارة | المسلمون الأوائل استخدموا العلم لبناء واحدة من أعظم الحضارات البشرية. |
سادسًا: العلم والعمل في الإسلام
في الفكر الإسلامي، لا قيمة للعلم إذا لم يُترجم إلى سلوك وعمل. فالقرآن الكريم كثيرًا ما يقرن بين الإيمان والعمل الصالح، وكذلك بين العلم والتطبيق. قال تعالى:
“إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ” [العصر: 3].
قال ابن القيم: “العلم والعمل توأمان، فالعلم أصل والعمل فرع، والعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمرة”.
سابعًا: مكانة العلماء في الإسلام
العلماء في الإسلام ليسوا فقط محترمين، بل لهم مكانة عظيمة في المجتمع الإسلامي، لأنهم ورثة الأنبياء. قال رسول الله ﷺ:
“إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” [رواه الترمذي].
واجبات العلماء
-
تعليم الناس أمور دينهم.
-
توجيه المجتمع نحو الخير والصلاح.
-
الوقوف في وجه الفساد والانحراف.
-
إحياء السنن ومواجهة البدع.
ثامنًا: نماذج من العلماء المسلمين
تاريخ الإسلام زاخر بالأعلام الذين خدموا الإنسانية بعلمهم، ونذكر منهم:
-
ابن سينا في الطب والفلسفة.
-
الخوارزمي في الرياضيات.
-
الرازي في الطب والكيمياء.
-
ابن الهيثم في البصريات.
-
الشافعي، أبو حنيفة، مالك، وابن حنبل في الفقه.
-
البخاري ومسلم في الحديث.
لقد أثرى هؤلاء العلماء الحضارة الإسلامية وتركوا بصمات واضحة لا تزال شاهدة على تميز العقل المسلم.
تاسعًا: العقبات التي تواجه العلم في العالم الإسلامي
رغم ما سبق، يواجه العلم في المجتمعات الإسلامية تحديات جسيمة، من أبرزها:
-
ضعف الاهتمام بالتعليم.
-
قلة الدعم للبحث العلمي.
-
تسلط الأنظمة القمعية على المؤسسات العلمية.
-
التغريب والانبهار الأعمى بالغرب.
-
غياب التخطيط الاستراتيجي العلمي.
عاشرًا: مستقبل العلم في الإسلام
لكي يعود للعلم مكانته في العالم الإسلامي، لا بد من:
-
إعادة الاعتبار للعلم في المناهج التعليمية.
-
دعم العلماء والباحثين.
-
ربط العلم بالإيمان.
-
تعزيز الثقافة العلمية في المجتمعات.
-
استعادة النموذج الإسلامي المتكامل للعلم والدين.
الخاتمة
العلم في الإسلام ليس نشاطًا معرفيًا معزولًا، بل هو لبنة أساسية في البناء الديني والإنساني والحضاري. لقد تعامل الإسلام مع العلم بوصفه جزءًا من العقيدة، وجعل منه وسيلة للارتقاء بالإنسان وتحقيق خلافته في الأرض. ومن هنا فإن العودة إلى روح الإسلام الأصيلة في التعامل مع العلم هي السبيل الأقوم للنهوض بالأمة ومواكبة تطورات العصر دون انفصال عن جذورها الروحية والثقافية.
المراجع:
-
الزركشي، “البحر المحيط في أصول الفقه”.
-
يوسف القرضاوي، “العلم والعلماء في الإسلام”.
