أسباب تخثر الدم: الأسباب المرضية والفيزيولوجية والعوامل المؤثرة

يُعدّ تخثر الدم من العمليات الحيوية الأساسية التي تحفظ حياة الإنسان وتمنع النزيف المفرط عند حدوث إصابة. يتمثل هذا التخثر في سلسلة معقدة من التفاعلات بين الصفائح الدموية، والبروتينات المساعدة، والعوامل المناعية، تؤدي إلى تكوين جلطة دموية تسد الجرح وتوقف النزف. غير أن هذا التفاعل الحيوي يمكن أن يتحول إلى حالة مرضية خطيرة عندما يحدث في الأوعية الدموية دون سبب واضح، مما قد يؤدي إلى انسدادها وتسبب مشكلات قلبية أو رئوية أو دماغية. تتعدد أسباب تخثر الدم، بين عوامل وراثية، واضطرابات مكتسبة، وعوامل نمط الحياة، إلى جانب بعض الحالات الطبية المزمنة التي تُعزز من احتمالية تكوّن الجلطات. يناقش هذا المقال بشكل موسع وعلمي العوامل التي تؤدي إلى تخثر الدم، موضحاً الأنواع، الآليات، الظروف الصحية المصاحبة، والسبل الوقائية.

مفهوم تخثر الدم وآلية حدوثه

تخثر الدم هو عملية معقدة تبدأ عند حدوث تلف في جدار الوعاء الدموي، حيث تقوم الصفائح الدموية بالالتصاق بمنطقة الإصابة وتُطلق إشارات كيميائية تؤدي إلى تنشيط سلسلة من البروتينات تُعرف بعوامل التخثر. تُحفز هذه البروتينات بعضها البعض بطريقة متسلسلة تُعرف بـ “السلسلة التفاعلية لتخثر الدم” أو “coagulation cascade”، وتنتهي بتكوين خيوط من الفيبرين (Fibrin) تعمل على تثبيت الصفائح الدموية معاً وتكوين الجلطة الدموية.

ينقسم تخثر الدم إلى نوعين رئيسيين:

• تخثر دموي طبيعي (فيزيولوجي): يحدث عند الجروح لحماية الجسم من النزيف.

• تخثر دموي غير طبيعي (مرضي): يحدث داخل الأوعية الدموية دون حاجة فعلية، وقد يسبب انسداداً في الشرايين أو الأوردة.

الأسباب الوراثية لتخثر الدم

تلعب العوامل الوراثية دوراً مركزياً في زيادة القابلية للإصابة بتخثر الدم. وتُعرف هذه الحالة باسم “الجلطات الوراثية” أو “الاضطرابات الموروثة لتخثر الدم”. أهم هذه الأسباب تشمل:

1. طفرة العامل الخامس لايدن (Factor V Leiden):

• تُعدّ من أكثر الطفرات الوراثية شيوعاً المرتبطة بزيادة خطر التجلط الوريدي.

• تُسبب مقاومة ضد تأثيرات البروتين C النشط (Activated Protein C)، وهو أحد المثبطات الطبيعية لعملية التخثر.

2. نقص البروتينات المضادة للتخثر:

• نقص البروتين C أو S أو مضاد الثرومبين III (Antithrombin III):

  • هذه البروتينات تُعيق تكوين الجلطات بشكل طبيعي.

  • غيابها أو نقصها يؤدي إلى نشاط مفرط في عوامل التخثر وزيادة خطر التجلط.

3. طفرة الجين المؤدي لزيادة البروثرومبين (Prothrombin G20210A):

• تُزيد من مستويات البروثرومبين، وهو أحد مكونات سلسلة التخثر.

• تُرفع من خطر حدوث الجلطات، خاصة الجلطات الوريدية.

الأسباب المكتسبة لتخثر الدم

إلى جانب العوامل الوراثية، هناك العديد من الأسباب المكتسبة التي يمكن أن تؤدي إلى حدوث تخثر دموي غير طبيعي. وتشمل هذه الأسباب ما يلي:

1. الخمول أو الجلوس لفترات طويلة:

• الجلوس الطويل خلال السفر أو بعد العمليات الجراحية يُسبب بطء في تدفق الدم، ما يعزز من احتمالية تكوّن الجلطات، خصوصاً في أوردة الساق.

2. السرطان وبعض علاجاته:

• السرطان يُعتبر من الأسباب القوية لتخثر الدم، خاصة سرطانات البنكرياس والمعدة والرئة.

• بعض الأدوية الكيميائية تُحفز أيضاً على زيادة التجلط.

3. الحمل والولادة:

• الحمل يرفع من عوامل التخثر ويقلل من العوامل المضادة للتخثر، مما يُهيئ الجسم لتكوين الجلطات كآلية حماية بعد الولادة.

• الخطر يزيد في الأسابيع الأولى بعد الولادة.

4. حبوب منع الحمل أو العلاج بالهرمونات البديلة:

• هذه الأدوية تحتوي على الإستروجين، الذي يرتبط بزيادة البروتينات المؤيدة للتخثر في الكبد.

5. الإصابات والعمليات الجراحية:

• الإصابات الحادة والعمليات الجراحية الكبرى تُحفز الجسم على إنتاج عوامل التخثر لمنع النزيف، ما يزيد من خطر التجلط.

الأمراض المزمنة المسببة لتخثر الدم

تُعدّ الأمراض المزمنة من بين العوامل الرئيسة المساهمة في اختلال توازن التخثر. من أهم هذه الأمراض:

1. متلازمة أضداد الفوسفوليبيد (Antiphospholipid Syndrome):

• مرض مناعي ذاتي يُنتج الجسم فيه أجساماً مضادة تهاجم البروتينات المرتبطة بالفوسفوليبيد في خلايا الدم.

• تُؤدي هذه الحالة إلى زيادة خطر الجلطات، سواء في الشرايين أو الأوردة، وقد تؤدي إلى الإجهاض المتكرر عند النساء.

2. أمراض القلب والأوعية الدموية:

• مثل الرجفان الأذيني، الذي يؤدي إلى ركود الدم داخل الأذين الأيسر، مما يُسهل تكوّن الجلطات.

• مرض تصلب الشرايين كذلك يُعيق تدفق الدم ويُسهم في تكوّن جلطات خطيرة.

3. أمراض الكبد:

• الكبد هو العضو المسؤول عن إنتاج معظم عوامل التخثر، وأي اضطراب في وظائفه يؤدي إلى عدم توازن بين عوامل التخثر ومضاداته.

4. السمنة:

• تُزيد من احتمالية الإصابة بالتخثر عبر زيادة الضغط على الأوردة وتغير مستويات الهرمونات وعوامل التخثر.

العوامل البيئية ونمط الحياة

عوامل نمط الحياة تلعب دوراً كبيراً في تحفيز أو كبح تخثر الدم. تشمل أهم هذه العوامل:

1. قلة الحركة:

• الخمول البدني يُقلل من تدفق الدم الوريدي، لا سيما في الأطراف السفلى.

2. التدخين:

• يؤدي إلى تلف بطانة الأوعية الدموية ورفع مستويات الفيبرينوجين في الدم، مما يُسرّع من تكوّن الجلطات.

3. الجفاف:

• انخفاض نسبة الماء في الجسم يزيد من تركيز الدم، مما يُسهّل تجمع الصفائح الدموية وتكوين الجلطات.

4. التغذية السيئة:

• نقص بعض الفيتامينات مثل فيتامين B6 و B12 وحمض الفوليك يرفع من مستويات الهوموسيستين (Homocysteine)، وهو من المركبات التي تُحفز التخثر.

جدول يوضح أبرز الأسباب المؤدية إلى تخثر الدم

المضاعفات الناتجة عن تخثر الدم

يُعتبر التخثر غير الطبيعي سبباً رئيسياً في العديد من الحالات الطبية الطارئة. ومن أبرز هذه المضاعفات:

• الانصمام الرئوي (Pulmonary Embolism): جلطة دموية تنتقل إلى الرئتين، مما يُهدد الحياة.

• الجلطة الدماغية (Stroke): تحدث نتيجة انسداد شريان دماغي بجلطة.

• النوبة القلبية (Heart Attack): تحدث عند انسداد شريان تاجي بجلطة.

• الخثار الوريدي العميق (DVT): جلطة دموية تتكوّن في أعماق الأوردة، غالباً في الساقين.

تشخيص حالات تخثر الدم

يحتاج تشخيص حالات التخثر غير الطبيعي إلى مجموعة من التحاليل الطبية الدقيقة، ومن أهمها:

• تحليل D-dimer: يُستخدم للكشف عن وجود تخثر نشط في الجسم.

• تحليل عوامل التخثر: مثل البروثرومبين (PT) والتروبلاستين الجزئي المنشط (aPTT).

• اختبارات جينية: للكشف عن الطفرات الوراثية مثل عامل لايدن والبروثرومبين G20210A.

• اختبارات الأجسام المضادة: خاصة للكشف عن متلازمة أضداد الفوسفوليبيد.

الوقاية من تخثر الدم

للوقاية من التخثر، تُوصى الإجراءات التالية حسب الحالة الصحية للفرد:

• الحركة الدورية خلال السفر أو بعد العمليات الجراحية.

• تناول أدوية مميعة للدم تحت إشراف الطبيب في حالات الخطر المرتفع.

• الإقلاع عن التدخين.

• التحكم في الوزن وتبني نظام غذائي غني بالفواكه والخضروات.

• شرب كميات كافية من الماء لتجنب الجفاف.

العلاجات المتوفرة

تختلف العلاجات حسب نوع الجلطة وموقعها والأسباب المؤدية لها:

• مضادات التخثر (Anticoagulants): مثل الهيبارين والوارفارين والريفاروكسابان.

• مذيبات الجلطات (Thrombolytics): تُستخدم في الحالات الحرجة مثل الجلطات الرئوية.

• المرشحات الوريدية (IVC Filters): تُزرع لمنع الجلطات من الانتقال إلى الرئتين في بعض الحالات.

• التدخل الجراحي أو القسطرة: لإزالة الجلطات الكبيرة في الشرايين أو الأوردة.

الخلاصة

تخثر الدم يُمثل