سر الله تعالى في خلقه

خلق الله تعالى الكون بما فيه من السماوات والأرض وما بينهما وما تحت الأرض، حكمةً بليغةً وعلماً شاملاً لا ينضب، ويُعدّ سرّ الخلق من أعظم أسرار الله التي تعجز العقول البشرية عن إدراكها بالكامل. إن هذا السر لا يتجلى فقط في خلق الأشياء من العدم، بل في تنظيمها وترتيبها وتوازنها الدقيق، وفي حكمة التكوين وغاية الوجود. وللكشف عن بعض جوانب هذا السر العميق، يجب النظر إلى الخلق في أبعاده الكونية والروحية والحياتية، مع استجلاء العلاقة بين الخالق والمخلوق، وبين الأسباب والغايات.

أولاً: مفهوم الخلق في الإسلام

الخلق هو صنع الله للوجود من لا شيء، وهو قدرة الله التي لا تُحَد، فقد خلق الله كل شيء بإرادته وحكمته، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء﴾ [النور: 45]. وخلق الكون لا يقتصر على التجميع العشوائي، بل هو نظام محكم، وتدبير دقيق يشير إلى تدبير عظيم وإرادة حكيمة.

الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجميع الكائنات وأوجدهم في منظومة معقدة ومتوازنة، وهذا التوازن في الخلق يدل على سرٍّ عميقٍ في تدبير الكون، ورغبة في تحقيق حكمة لا يعلمها إلا هو.

ثانياً: سرّ التوازن والانسجام في الخلق

تتجلى عظمة الخلق في دقة النظام والتوازن الذي يتحكم في كل شيء، من أصغر الذرات إلى أضخم المجرات، فكل شيء في هذا الكون يسير وفق قوانين محددة، وقواعد ثابتة وضعت بإحكام بالغ، لا يسمح الله تعالى بخلل فيها إلا لحكمةٍ خاصة.

على سبيل المثال، قوانين الفيزياء والكيمياء التي تحكم حركة الأجرام السماوية، ومناخ الأرض، ودورة المياه، وحتى النظام البيولوجي للكائنات الحية، تدل على وجود تدبير محكم ومعلّل.

ويقول تعالى في محكم تنزيله: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7]، والميزان هنا إشارة إلى التوازن في كل شيء، وهذا التوازن دلالة على حكمة ربانية لا تظهر إلا لمن يتأمل بعين العلم والإيمان.

ثالثاً: الخلق من العدم وسرّ الإرادة الإلهية

خلق الله تعالى الأشياء من العدم سرٌّ عظيم، لا يدركه إلا الله وحده، فالمخلوق لا يملك من ذاته شيئاً، وإنما هو من خلق الله، وهذا يدل على مدى قدرة الله وعظمته. إن قدرة الله على الخلق من العدم تعكس خصوصية العلاقة بين الخالق والمخلوق، حيث كل شيء موقوف على إرادة الله وحكمته.

هذا السر يعكس كذلك كيف أن الله تعالى لم يخلق الكون عبثاً، بل لأهدافٍ ساميةٍ وحكمٍ جليلة، فلا شيء في الوجود بلا سبب أو غاية. وهذه الغايات تتفاوت بين المقاصد الظاهرة والمقاصد الخفية التي يختص الله بها، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

رابعاً: حكمة الخلق وأهدافه

الخليقة بحد ذاتها تحوي على الكثير من الحكم التي قد لا تظهر للإنسان بسهولة، منها ما هو علمي موضوعي، ومنها ما هو روحي وأخلاقي. ولعل أبرز هذه الحكم:

1. إظهار القدرة الإلهية: خلق الله الكون والإنسان لإظهار قدرته وعظمته، فكل ما في الكون من جمال وتنظيم هو دليل على وجود خالق عليم حكيم.

2. ابتلاء الإنسان واختباره: الحياة الدنيا دار اختبار، والخلق جاء ليكون الإنسان محل امتحان لأعماله وأخلاقه.

3. إظهار صفات الله: الخلق يعكس صفات الله مثل الرحمة، والعدل، والقدرة، والحكمة، فالخلق في ذاته بيان لهذه الصفات.

4. تحقيق العبودية والعبادة: خلق الله الإنسان لعبادته واتباع شرعه، فالخلق له غاية روحية ومصيرية.

خامساً: مظاهر سرّ الخلق في الإنسان

الإنسان هو أعظم مخلوقات الله وأعجبها صنعاً، ففي تكوينه سرّ عظيم:

• النفس البشرية: النفس سر غامض، لا يمكن تفسيرها مادياً فقط، فهي الروح التي خلقها الله لتكون أصل الحياة.

• الجسم: يتكون من ملايين الخلايا التي تعمل بتناغم عجيب لا يمكن تفسيره إلا بحكمة الخالق.

• العقل: الذي يميز الإنسان ويمكّنه من التفكير، والاستدلال، والتأمل، وهو دليل على تميّز الإنسان في الكون.

• القدرة على الاختيار: الله سبحانه خلق الإنسان مكرّماً بالعقل والاختيار، ليكون مسؤولاً عن أفعاله وأعماله.

سادساً: سرّ التغيير والتطور في الخلق

الخلق لا يقتصر على ثبات الأشياء، بل يشمل عملية مستمرة من التغيير والتطور، وهذا يدل على حكمة إلهية في تحقيق التكامل والنمو:

• الدورة الحيوية: حياة النبات والحيوان تمر بمراحل متعددة من الولادة، والنمو، والشيخوخة، والموت، وهو نظام دقيق يدل على حكمة في التنسيق.

• تطور الكائنات: بعض العلماء يؤكدون أن الله خلق قوانين تسمح بتطور الأنواع بما يتوافق مع حكمة الخلق، وهو أمر يتطلب تدبيراً إلهياً خارقاً.

• التغيير في الكون: النجوم والكواكب تتحرك وتتغير، وهذا يؤكد أن الخلق ليس جامداً، بل متحرك وموجه بحكمة إلهية.

سابعاً: علاقة الخلق بالعبادة والتقوى

الخلق لا يقتصر فقط على الظواهر الكونية، بل له علاقة وثيقة بالقيم الروحية والعبادية، فالإيمان بقدرة الله على الخلق يزيد من خشية الله، وحب الطاعة، والابتعاد عن المعاصي.

الإنسان المؤمن يدرك أن كل شيء في الكون مخلوق بحكمة وله غاية، وهذا يدفعه إلى التأمل في آيات الله، والاعتبار بما في الكون من دلائل على وحدانيته وقدرته، مما يعزز التقوى ويقوي العزيمة على الطاعة.

ثامناً: خلق الإنسان في أفضل تقويم

قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]. هذا البيان يعكس حقيقة عظيمة وهي أن خلق الإنسان في صورة متقنة ومتناسقة، تنم عن سرّ عظيم في التصميم الإلهي.

فالخلق في أحسن تقويم يعني أن الإنسان مهيأ لأداء دور عظيم في الحياة، وأن خلقه ليس عبثاً بل بأعلى صورة ممكنة، تتناسب مع الغايات التي وُجد لأجلها.

تاسعاً: الخلق بين الظاهر والباطن

الخلق يحمل معانٍ عديدة منها الظاهر الذي نراه بأعيننا، والباطن الذي يتعلق بالمعاني الخفية والغايات الروحية:

• الظاهر: هو تكوين الكائنات ووجودها، وتوازنها في الكون.

• الباطن: يتجلى في الحكمة من وراء الخلق، والغاية التي تكتنفها، والعلاقة الروحية بين الله والمخلوق.

وقد أكد العلماء والمتصوفة أن النظر في سر الخلق يفتح آفاقاً واسعة للفهم الروحي والاعتقاد الإيماني، لأن فيه إشارات إلى كمال الله وجلاله.

عاشراً: موازين خلق الله

في القرآن الكريم نجد ذكر الموازين التي وضعها الله في الخلق، والتي تبرز عدله وحكمته في كل شيء:

هذه الموازين توضح أن خلق الله ليس مجرد خلق مادي، بل له بعد أخلاقي وروحي عميق.

الحادي عشر: سرّ الأسماء والصفات في الخلق

الله تعالى وصف نفسه بأسماء وصفات متعددة تعبر عن كماله وحكمته، والخلق يعكس هذه الأسماء من خلال مخلوقاته:

• الرحمن الرحيم: الرحمة في تهيئة الحياة وتيسيرها.

• القدير: القدرة المطلقة على الخلق والإبداع.

• العليم: العلم الكامل بكل ما خلقه.

• الحكيم: الحكمة في ترتيب الأشياء وأسبابها.

إن كل خلق يدل على اسم من أسماء الله الحسنى، وهو سر عظيم يتجلى في الكون.

الثاني عشر: الخلق رمز لوحدة الله وتوحيده

خلق الله الواحد الأحد يثبت وحدانيته وقدرته، فالكون بأسره يشهد على توحيد الله، لا شريك له في الخلق والتدبير.

التأمل في الكون يدعو إلى إدراك أن كل هذا النظام لا يمكن أن يكون من صنع الصدفة أو المصادفة، بل من عمل خالق واحد هو الله، وهذا السر في الخلق يؤكد توحيد الله في العبادة والربوبية.

في الختام، سر الله تعالى في خلقه هو سرّ عميق متشابك مع قدرة الله وحكمته، يتجلى في دقة التوازن، في حكمة الغايات، في تنوع المخلوقات، في التكامل بين الظاهر والباطن، في ارتباط الخلق بالعبادة والقيم، وفي توحيد الله الذي يتجلى في كل شيء. وهذا السر لا ينكشف إلا لمن اتبع العلم والإيمان معاً، فهما السبيل لفهم جزء من عظمة الخلق، بينما يبقى سر الخلق كاملاً عند الله وحده.

المصادر:

1. تفسير الطبري، مجمع البيان في تفسير القرآن.

2. القرآن الكريم.