كيف تصل إلى السعادة؟

مقدمة

السعادة، ذلك الشعور العميق بالرضا والسكينة والطمأنينة الداخلية، طالما كانت هدفًا ساميًا تسعى إليه البشرية منذ فجر التاريخ. عبر العصور والثقافات، تعددت تعريفات السعادة ووسائل تحقيقها، فبعضها ربطها بالثروة، وبعضها الآخر بالحب أو بالنجاح المهني أو بالزهد والتأمل. غير أن الواقع المعاصر، بتعقيداته النفسية والاجتماعية، فرض على الإنسان تحديات جديدة جعلت من السعادة حالة نادرة أو عابرة في حياة كثيرين، رغم التقدم التكنولوجي والانفتاح الفكري.

تحقيق السعادة ليس وصفة سحرية تُطبق ببساطة، بل هو نتاج تفاعل معقد بين العقل والنفس والجسد، يتطلب وعيًا ذاتيًا عميقًا وفهمًا دقيقًا لطبيعة الإنسان وعلاقته بالواقع من حوله. في هذا المقال، يتم التطرق إلى مفهوم السعادة من جوانب متعددة: فلسفية، نفسية، بيولوجية، واجتماعية، مع تسليط الضوء على أهم الطرق والأساليب التي أثبتت فعاليتها علميًا وعمليًا لتحقيق حالة من السعادة المستدامة.

مفهوم السعادة عبر العصور

عُرفت السعادة في الفلسفة الإغريقية بأنها “الغاية القصوى للوجود الإنساني”، وكان أرسطو يرى أن السعادة تتحقق من خلال “العيش وفق الفضيلة”، أي انسجام الرغبات مع القيم الأخلاقية. أما أفلاطون فربطها بالخير الأعلى والتأمل في المطلقات، بينما رأى الرواقيون أن السعادة تتحقق بالتحرر من الانفعالات والرغبات غير العقلانية.

في الفكر الإسلامي، كانت السعادة مفهومًا متكاملًا يجمع بين صلاح النفس، رضا الله، والتوازن بين الروح والجسد. في القرآن الكريم، وردت السعادة بمعانٍ متعددة مثل الطمأنينة، والرضا، والبشرى، وهي ناتجة عن الإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97].

في العصر الحديث، بدأ علم النفس في إعادة تعريف السعادة باعتبارها حالة عقلية قابلة للقياس والتحليل، ترتبط بمستويات معينة من الرضا الذاتي، جودة العلاقات الاجتماعية، واستقرار الحالة العاطفية. وهكذا تحول سؤال “كيف أكون سعيدًا؟” من مجرد تساؤل فلسفي إلى ميدان علمي يعتمد على تجارب ودراسات معمقة.

السعادة من منظور علم النفس

ينقسم علماء النفس في رؤيتهم للسعادة إلى اتجاهين رئيسيين: الأول يُعرف بالسعادة hedonic، وهي السعادة القائمة على المتعة، تجنب الألم، واللذة الفورية. أما الاتجاه الثاني فيركز على السعادة eudaimonic، وهي الأعمق، وتنبع من الإحساس بالمعنى، الغاية، وتحقيق الذات.

يعتبر عالم النفس الإيجابي “مارتن سيليغمان” من أبرز رواد علم النفس الإيجابي، وقد طور نموذجًا يُعرف بـ(PERMA) لتفسير عناصر السعادة المستدامة، وهو يتكون من:

هذا النموذج ساهم في إعادة تعريف السعادة كمزيج متوازن بين الجوانب النفسية والاجتماعية والعملية في حياة الفرد.

البيولوجيا والسعادة

السعادة ليست شعورًا نفسيًا فحسب، بل هي أيضًا تجربة بيولوجية معقدة تنظمها مجموعة من المواد الكيميائية في الدماغ، أبرزها:

• الدوبامين: يُعرف بهرمون المكافأة، ويرتبط بالشعور بالإنجاز والتحفيز.

• السيروتونين: ينظم المزاج ويقلل من مشاعر الاكتئاب والقلق.

• الأوكسيتوسين: يسمى “هرمون الحب”، ويرتبط بالتواصل والعلاقات الحميمة.

• الإندورفين: يقلل الألم ويمنح شعورًا بالمتعة، خصوصًا بعد التمارين الرياضية.

نقص هذه المواد أو اضطراب توازنها قد يؤدي إلى صعوبة في تحقيق الإحساس بالسعادة، ما يوضح أهمية العناية بالصحة الجسدية والنفسية كشرط أساسي لنيل السعادة.

عوامل تعزيز السعادة

1. ممارسة الامتنان

الامتنان يُعد من أقوى العوامل المرتبطة بالسعادة النفسية. ممارسة الامتنان بشكل يومي، من خلال الكتابة أو التأمل، يزيد من النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالمشاعر الإيجابية. وقد أظهرت دراسات عديدة أن الأشخاص الذين يدوّنون ثلاثة أشياء ممتنون لها يوميًا يتمتعون بمستوى أعلى من الرضا العام عن الحياة.

2. العلاقات الاجتماعية

العلاقات الجيدة مع العائلة والأصدقاء والشريك العاطفي تُعد من أقوى مؤشرات السعادة المستدامة. أظهرت دراسة هارفارد الشهيرة، التي استمرت أكثر من 75 عامًا، أن العامل الأكثر تأثيرًا في السعادة هو جودة العلاقات الاجتماعية وليس الثروة أو الشهرة.

3. مساعدة الآخرين

القيام بأعمال الخير والمساعدة الطوعية يُحسن من المزاج ويمنح الإحساس بالمعنى والقيمة. الأبحاث الحديثة تشير إلى أن التطوع والمشاركة المجتمعية يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بارتفاع معدلات السعادة الشخصية.

4. الحياة المتوازنة

تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، والاعتدال في تناول الطعام، والحفاظ على نوم منتظم، كلها عوامل تؤثر في التوازن الهرموني في الجسم وبالتالي على الحالة المزاجية.

5. المعنى والغاية

الشعور بأن للحياة هدفًا ساميًا أو رسالة يؤمن بها الإنسان يعزز قدرته على الصمود أمام الصعوبات. الأفراد الذين يعيشون وفق معتقدات راسخة أو يسعون نحو أهداف بعيدة المدى غالبًا ما يتمتعون بدرجة أعلى من السعادة.

العوائق النفسية أمام السعادة

رغم وضوح بعض مسارات السعادة، إلا أن هناك عدة عوائق نفسية تحول دون الوصول إليها، أبرزها:

• المقارنة الاجتماعية: الوقوع في فخ مقارنة الذات بالآخرين، خصوصًا في عصر وسائل التواصل، يؤدي إلى تآكل الشعور بالرضا.

• الكمالية: التوقعات العالية المبالغ فيها، والرغبة في بلوغ الكمال، ترتبط بمستويات عالية من التوتر والقلق.

• التفكير السلبي المتكرر: الاجترار المستمر للأفكار السلبية يعوق القدرة على الاستمتاع بالحاضر ويؤدي إلى الاكتئاب.

• الاعتماد على الظروف الخارجية: ربط السعادة بظروف مثل المال أو الشهرة يجعلها عرضة للتقلبات.

السعادة والاستهلاك

في المجتمعات الحديثة، أصبح الاستهلاك أحد أكثر الأدوات المضللة التي يُروَّج لها كطريق نحو السعادة. رغم أن الحصول على المال أو الماديات قد يمنح لحظة مؤقتة من السعادة، إلا أن الدراسات تشير إلى “تأقلم السعادة”، حيث يعتاد الإنسان على الأشياء المادية سريعًا وتفقد تأثيرها.

يُوصى بأن تُستخدم الموارد المالية لتجارب معنوية مثل السفر أو التعلم أو قضاء وقت ممتع مع الآخرين، فهي أكثر تأثيرًا على السعادة من شراء الأشياء.

السعادة في الثقافات المختلفة

ثقافة الشعوب تلعب دورًا مهمًا في تشكيل مفهوم السعادة. ففي الدول الإسكندنافية، تُربط السعادة بالرفاهية الاجتماعية، الدعم الحكومي، وتكافؤ الفرص. أما في الثقافات الشرقية مثل اليابان، فالسعادة ترتبط بالانسجام الجماعي، الإخلاص، والعمل المتقن (إيكيغاي). في حين أن ثقافات أخرى قد تربط السعادة بالروحانية أو القدر أو البساطة.

هذا التنوع الثقافي في تعريف السعادة يثبت أنها ليست حالة مطلقة أو موحدة، بل تعتمد على الإطار القيمي والاجتماعي لكل مجتمع.

دور الفنون والروحانيات

الفن والموسيقى والقراءة والتأمل الروحي تُعد من الوسائل القوية للوصول إلى حالات من السلام الداخلي والسعادة العميقة. الموسيقى، على وجه الخصوص، تُحفز مراكز اللذة في الدماغ، في حين أن التأمل والعبادة يعززان التركيز والسلام العقلي.

الممارسات الروحية، مثل الصلاة أو التأمل التجاوزي، أثبتت علميًا قدرتها على تقليل مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر) وزيادة الإحساس بالهدوء.

جدول مقترح لعادات يومية تعزز السعادة

الخاتمة

السعادة ليست حالة سحرية تهبط على الإنسان فجأة، بل هي عملية مستمرة من الوعي، والعمل الداخلي، والقرارات اليومية. إنها ليست هدفًا نهائيًا، بل نمط حياة يرتكز على القيم والمعنى، ويمتزج بالامتنان والرضا والارتباط الإنساني. لا تُشترى السعادة، ولا تُهدى، وإنما تُبنى يومًا بعد يوم من خلال أسلوب حياة متوازن، وفكر ناضج، ومشاعر متصالحة مع الذات والآخرين.

المصادر

1. Seligman, M. E. P. (2011). Flourish: A Visionary New Understanding of Happiness and Well-being. Free Press.

2. Lyubomirsky, S. (2007). The How of Happiness: A New Approach to Getting the Life You Want. Penguin.