ذلك الرجل الغريب
في إحدى قرى الريف النائية، حيث تتناثر الأكواخ على جوانب الطرقات، والمراعي تمتد إلى ما لا نهاية، كان هناك شيء غريب يحدث بين الحين والآخر. في هذه القرية الهادئة، التي لا يُسمع فيها إلا أصوات الطيور وأزيز الرياح بين الأشجار، ظهر رجل غريب. لم يكن هناك شيء في مظهره يوحي بالغموض أو الاستثنائية، ولكن الناس في تلك القرية اعتادوا على الألفة مع كل شيء، ولم يكن لديهم مكان للغريب بينهم.
منذ الوهلة الأولى التي رأوه فيها، شعر الجميع بشيء غير طبيعي. كان ذلك الرجل يسير على مهل بين الأزقة الضيقة، يراقب الأشياء من بعيد، ويتجنب التواصل المباشر مع أحد. كانت عينيه تحملان نظرة شاردة، وكأنهما غارقتان في ذكريات بعيدة، ومهما حاول الجميع أن يقتربوا منه، كان يظل محتفظًا بعزلته.
عندما وصل الرجل إلى القرية لأول مرة، كانت الشائعات تدور بسرعة بين السكان. “هل رأيت ذلك الرجل؟” سأل أحدهم. “نعم، لكنه غريب! لا أظنه قد مر من هنا من قبل، يبدو أنه ضائع!” أجاب الآخر. كانت تلك الجمل تنتشر مثل النار في الهشيم، وبدأت الأسئلة تتراكم عن من يكون هذا الرجل، ومن أين أتى، ولماذا جاء إلى تلك القرية الصغيرة التي لا تعرف الغرباء.
في البداية، كان الرجل يختار الجلوس في الزوايا المظلمة، أو في الحانات الصغيرة التي تبيع الأطعمة المحلية. كان يشرب كوبًا من الشاي أو القهوة، ولا يُثرثر مع أحد. على الرغم من قلة حديثه، كان يتواجد في الأماكن التي يمر بها معظم الناس، ولكن بطريقة لا تجذب الانتباه. كان دائمًا يراقب، ولكن دون أن يرفع رأسه عالياً.
وذات مساء، في ليلة خريفية حالكة، بينما كانت الرياح تعصف بالأشجار وتصفر بين الجدران المهدمّة، تجمع أهالي القرية في الساحة الرئيسية للاحتفال بموسم الحصاد. كان الضوء يتلألأ من المصابيح، وأصوات الضحك تملأ الأجواء، ولكن في وسط هذه الفوضى الصاخبة، كان الرجل الغريب يقف وحيدًا في الظل. كانت عيونه تتابع تحركات الجميع بهدوء، وكأنما كان يتابع رقصة الحظ. وبينما كانت الأضواء تضيء الوجوه المشرقة، كان يظل وجهه غارقًا في الظلام.
في تلك الليلة، اقترب منه أحد الشبان الفضوليين، الذي كان دائمًا يتساءل عن هذا الرجل الغريب. كان الشاب يُدعى “سمير”، وهو شاب في العشرينات من عمره، لا يهتم كثيرًا بالقيود الاجتماعية، وكان يمتلك فضولًا لا حدود له. قرر سمير أن يذهب ويقترب من الرجل في تلك الزاوية المظلمة.
قال سمير: “أنت جديد هنا، أليس كذلك؟”. كان صوته خفيضًا، ولا يبدو فيه الكثير من الاهتمام، لكنه كان يراقب الرجل بعينيه الحادتين.
أجاب الرجل بصوت هادئ، دون أن يلتفت إليه: “نعم، أنا جديد هنا.”
حاول سمير أن يستفهم أكثر: “هل تعرف أحدًا هنا؟”
لكن الرجل لم يرد، بل اكتفى بالابتسامة بطريقة غريبة، ثم تحدث قائلاً: “ليس لدي أحد هنا، ولكن لدي ذكريات.”
كانت كلمات الرجل مليئة بالغموض، ولم تكن عينيه قد تحركتا من مكانهما، بل كان ينظر إلى شيء بعيد في الأفق. شعر سمير بشيء غير مريح في تلك اللحظة، وكأن الرجل كان يحاول أن يقول شيئًا دون أن يكون له القدرة على التعبير عنه بشكل واضح.
في اليوم التالي، قرر سمير أن يتبع الرجل. كان يعتقد أن هذا الشخص يحمل سرًا ما، وكان لديه قناعة عميقة بأن الرجل لم يكن عاديًا كما يبدو. بدأ يتبعه في المساء، حتى وصل إلى أطراف القرية حيث كانت التلال الصغيرة تتناثر على جانبي الطريق. وبعد مسافة طويلة من السير، توقفت خطوات الرجل الغريب أمام مقبرة قديمة مهجورة.
نظرت عيون سمير بدهشة وهو يراقب الرجل يقف هناك، وكأنما كان ينتظر شيئًا. كان الظلام يحيط بالمكان، وصوت الرياح يهمس في الأرجاء، بينما كان الرجل ينحني فجأة أمام أحد القبور، وكأنما يهمس في أذن شخص ما.
فجأة، شعر سمير بحركة خلفه. التفت ليجد نفسه محاطًا بالظلام، وكأنما اختفت القرية بأكملها من أمامه. كانت أصوات الرياح قد تلاشت، وتوقف الزمن حوله. شعر بشيء غير مريح في قلبه، وكأنما كان هناك شيء أكبر من مجرد الرجل في تلك المقبرة.
وبدون أن يتفوه بكلمة، انتبه سمير إلى أن الرجل الغريب قد اختفى فجأة، كما لو أنه تبخر في الهواء. فقط ضوء القمر الذي ينعكس على القبور المهجورة كان الوحيد الذي يشهد على ما حدث هناك.
عاد سمير إلى القرية في اليوم التالي، ولكنه كان قد تغير. لم يكن ينظر إلى الرجل الغريب بنفس الطريقة بعد تلك التجربة، ولم يكن حتى يجرؤ على سؤال الآخرين عما إذا كانوا قد شاهدوا نفس المشهد. كان يشعر بشيء من الغموض يحيط بكل شيء في تلك القرية، وكان يعلم أن هناك ما لا يمكن تفسيره، وأن بعض الأسرار يجب أن تظل مخفية للأبد.
ومع مرور الأيام، أصبح الرجل الغريب جزءًا من أسطورة القرية. كانت الأحاديث تتناقل عن لقاءاته الغريبة في المقبرة وعن تلك النظرات التي كانت تحمل تاريخًا طويلًا من الحزن والآلام. وبعد أن رحل الرجل الغريب، لم يتبق سوى الذكريات، وتلك الأسئلة التي لا تجد لها إجابة، ولكن ما كان مؤكدًا في النهاية هو أن ذلك الرجل، بكل غموضه، كان قد حمل معه سرًا عميقًا سيظل جزءًا من روح القرية إلى الأبد.
