سبب نزول سورة عبس: تفسير ودراسة مفصلة
سورة عبس هي السورة رقم 80 في ترتيب سور القرآن الكريم، وتحتوي على 42 آية. وتعتبر هذه السورة واحدة من السور المكية التي نزلت في مكة المكرمة في الفترة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم يعاني من قلة النصير والمعارضة الشديدة من قريش. وقد تناولت السورة في طياتها مواضيع عدة، أبرزها الرد على تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأفراد والاهتمام بتوجيه رسالته إلى الناس بشكل شامل.
لكن ما هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى نزول هذه السورة؟ وما السياق الذي ارتبط بهذه الحادثة؟ من خلال استعراض المواقف التاريخية التي سبقت نزول السورة، وتفسير العلماء لها، يمكننا أن نرصد الأسباب الدقيقة لنزول سورة عبس.
السياق الزمني والمكاني لسورة عبس
تعد سورة عبس واحدة من السور المكية التي نزلت قبل الهجرة. وتعتبر هذه الفترة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرحلة صعبة، إذ كان يدعو قريشًا للإسلام ويواجه المعارضة الشديدة من قِبل قادة قريش وأعيانها. كان العديد من قادة قريش ينظرون إلى دعوة النبي على أنها تهديد لسلطتهم وقيمهم التقليدية، لذلك حاولوا بكل الطرق إحباط دعوته. وفي ظل هذه الظروف، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على نشر رسالته للجميع.
السبب في نزول السورة
يُعتقد أن سبب نزول سورة عبس مرتبط بحادثة معينة حدثت مع أحد الأفراد الذين جاءوا للاستماع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وارتبطت هذه الحادثة مباشرة بتفاعل النبي مع رجل أعمى. وتقول الروايات بأن الحادثة كانت تتعلق برجل أعمى يُدعى عبد الله بن أم مكتوم، وهو أحد الصحابة الكرام الذين أسلموا مبكرًا وكانوا من بين أوائل المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
تفاصيل الحادثة
كان النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الأيام في مجلس مع بعض كبار قريش من زعماء قريش مثل أبي جهل وعمرو بن هشام، حيث كان يناقش معهم شؤون الدعوة ويراعي مصالحهم من أجل دعوتهم للإسلام. وكان هؤلاء القادة من ذوي المناصب العالية والنفوذ الكبير في قريش، مما جعل النبي يوليهم اهتمامًا خاصًا. وفي تلك اللحظة، جاء عبد الله بن أم مكتوم، وهو رجل أعمى، إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالبًا منه أن يوجه إليه بعض الكلمات التي قد تساعده في فهم الإسلام بشكل أفضل.
وبدلاً من أن يلتفت النبي إلى هذا الصحابي الجليل، أبدى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الانزعاج وأعرض عن عبد الله بن أم مكتوم، وذلك في محاولة لجذب انتباه قادة قريش والاهتمام بمستقبل الدعوة من خلال المحاورات معهم. كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في إقناع هؤلاء الزعماء بالتخلي عن أديانهم واتباع الإسلام، حيث كان يعتقد أن تأثير هؤلاء القادة على قومهم قد يكون حاسمًا في نشر الإسلام.
الآيات التي نزلت في هذا السياق
نزلت سورة عبس في هذا الموقف، حيث بدأ الله سبحانه وتعالى في تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بضرورة الاهتمام بكل أفراد المجتمع، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو المالية. كانت الآيات التي نزلت في هذا السياق هي بداية السورة:
“عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ” (عبس: 1-4)
وقد بينت هذه الآيات أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عبس وتولى عندما جاءه الرجل الأعمى، وهو عبد الله بن أم مكتوم، وتساءل الله عن السبب في ذلك، مستنكرًا تصرف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف. كان الهدف من نزول هذه الآيات هو التأكيد على أن الدعوة يجب أن تكون شاملة للجميع، دون تمييز أو تحيز، وألا يُعرض أحد عن سماع كلمة الحق لمجرد أنه فقير أو ضعيف.
المعنى العميق وراء نزول السورة
تتمثل الرسالة التي توجهها هذه السورة في ضرورة الاهتمام بالضعفاء والمساكين، وعدم تفضيل الأغنياء أو ذوي السلطة على هؤلاء الناس. في هذه السورة، يوجه الله سبحانه وتعالى رسالة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن عمله في الدعوة يجب أن يكون منطلقًا من الرحمة والمساواة بين الناس، دون النظر إلى ثرواتهم أو مكانتهم.
تُظهر السورة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس معصومًا من الخطأ في بعض المواقف، بل كان يتعلم ويُوجه من الله عز وجل. فحتى النبي صلى الله عليه وسلم كان بحاجة إلى أن يتلقى التوجيهات من الله، وهذا يبرز الجانب الإنساني في شخصيته، حيث كان يظل خاضعًا لله في كل تصرفاته.
رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول السورة
بمجرد أن نزلت هذه الآيات، كان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية التأثر. وقد ذكر في بعض الروايات أنه بعد نزول السورة مباشرة، عندما جاء عبد الله بن أم مكتوم مرة أخرى، استقبل النبي صلى الله عليه وسلم بحفاوة، وأخذ يسأله ويحدثه عن الإسلام بشكل واسع. وكانت هذه الحادثة بمثابة درس للنبي صلى الله عليه وسلم في ضرورة الاهتمام بكل فرد في المجتمع، بغض النظر عن حالته أو وضعه الاجتماعي.
الدروس المستفادة من سورة عبس
-
الاهتمام بالضعفاء والمحتاجين: تُظهر السورة أن الرسالة الإسلامية تتطلب أن يكون المسلمون، بمن فيهم قادة الدعوة، متساويين في اهتمامهم بالناس، سواء كانوا من الأغنياء أو الفقراء، الأقوياء أو الضعفاء.
-
التوجيهات الربانية للنبي: على الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبيًا معصومًا، إلا أن هذه الحادثة تبرز أن الله كان يوجهه ويعلمه في كل موقف، مما يظهر عظمة المنهج الرباني في التربية والتعليم.
-
التعامل مع الناس بإنصاف: الدعوة إلى الإسلام ليست مقتصرة على طبقة معينة من الناس، بل هي دعوة شاملة لجميع البشر، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو الاقتصادية.
الخاتمة
تعد سورة عبس درسًا عظيمًا للمسلمين في كيفية تعاملهم مع مختلف طبقات المجتمع. فالدعوة الإسلامية لا تستثني أحدًا، ولا تميز بين الناس بناء على مكانتهم أو ثروتهم. ويجب على كل مسلم أن يتحلى بالحكمة والرحمة في التعامل مع الآخرين، خاصة مع من لا يتمتعون بالقدرة على الدفاع عن أنفسهم أو من هم في وضع ضعيف.
نزلت هذه السورة لتصحيح تصور النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المواقف الصعبة، ولتكون دعوة لجميع المسلمين بعده في كيفية مراعاة مصالح جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن مكانتهم.
