سبب نزول سورة النصر
سورة النصر هي السورة رقم 110 في القرآن الكريم، وهي من السور المكية التي نزلت في أواخر فترة حياة النبي صلى الله عليه وسلم. تتألف السورة من ثلاث آيات، وهي من السور القصيرة التي تحمل معاني عميقة ودلالات واسعة على نصرة الله تعالى لنبيه، واكتمال دعوته، وتأكيد قربه من النهاية الطبيعية للمسيرة النبوية في الأرض. ما يجعل سورة النصر من السور المميزة ليس فقط كلماتها، بل أيضاً السبب وراء نزولها، وهو ما يعكس المرحلة المتقدمة التي وصل إليها الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
السياق التاريخي لنزول السورة
سورة النصر نزلت بعد غزوة الفتح الكبرى، وهي الفترة التي كانت خلالها دعوة الإسلام قد بلغـت ذروتها، وبعد أن أسلمت قريش، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. نزلت السورة في وقت كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أدرك أن مهمته قد اقتربت من نهايتها، وأن الله سبحانه وتعالى قد أتم له الرسالة، وأن الناس قد دخلوا في دينه أفواجًا. يشير العلماء إلى أن هذه السورة تُعد من أبرز دلائل اكتمال النصر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحمل بشارة عظيمة له بترتيب الأمور في طريق الإسلام، وعلامة على تحقيق الهدف الذي بعث من أجله.
نص السورة:
“إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَفِيدُونَ فِي دِينِ اللَّـهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَابًا” (الفتح: 1-3).
تفسير الآيات
1. “إذا جاء نصر الله والفتح”
كلمة “نصر الله” تعني أن الله تعالى قد نصَر رسوله، وأعانه على أعدائه، كما هو حال غالبية غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة في معركة الفتح التي كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الدعوة الإسلامية.
أما “الفتح” فيقصد بها فتح مكة، حيث دخل المسلمون مكة في السنة 8 هـ بعد أن كانت قريش قد نقضت عهد الحديبية. جاء هذا الفتح ليكون مظهرًا آخر من مظاهر القوة التي تمت بها نصرة الدين، وتمثل خطوة عظيمة نحو تحقيق الانتشار الواسع لدعوة الإسلام في شبه الجزيرة العربية.
2. “ورأيت الناس يفيدون في دين الله أفواجًا”
هذه الآية تشير إلى تزايد دخول الناس في دين الله بشكل جماعي وبأعداد كبيرة. فبعد فتح مكة، بدأ عدد المسلمين يزداد بشكل ملحوظ، وكانت القبائل العربية التي كانت في الماضي عدوة للإسلام تبدأ في الدخول فيه طواعية. في هذا المشهد، يمكن تصور كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى هذا التحول الكبير الذي حدث في المجتمع العربي، وهو ما يرمز إلى توجيه الرحمة الإلهية ونجاح الإسلام في تغيير الكثير من النفوس.
3. “فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا”
هذه الآية تدعو النبي صلى الله عليه وسلم، في لحظة النصر العظيم، إلى التسبيح بحمد الله، والاستغفار له، معترِفًا بفضل الله على هذا النصر الكبير. وهو دعاء من الله لنبيه بتوثيق العلاقة معه سبحانه وتعالى في لحظة الإتمام والتمام، والاعتراف بالعجز البشري أمام العظمة الإلهية. كما أن “إنه كان توابًا” تعني أن الله سبحانه وتعالى قابل للتوبة، وأنه سبحانه لا ييأس عباده مهما كانت الأخطاء السابقة.
سبب نزول السورة
أما بالنسبة لسبب نزول سورة النصر، فهناك العديد من الروايات التي تتعلق بذلك، وأشهرها:
-
رواية عائشة رضي الله عنها:
قالت السيدة عائشة: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: يا رسول الله، هل هذا الفتح الذي تحقق هو الفتح الحقيقي؟ فقال لي صلى الله عليه وسلم: نعم، إن الله قد أعطاني هذا الفتح، وحققت الدعوة، وبشَّرني النصر العظيم”. من هذا الحديث يتبين أن السورة نزلت في مرحلة متقدمة من الدعوة، وكان نزولها بمثابة إعلان للإتمام والتكامل في الرسالة. -
رواية ابن عباس:
يقول ابن عباس رضي الله عنه: “نزلت سورة النصر بعد أن فُتحت مكة، وهي علامة على القرب من نهاية مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، ويُقصد بها أن دعوته قد تمت بنجاح، وأن مهمته قد اقتربت من نهايتها”.
معاني ودلالات السورة
سورة النصر تمثل تجسيدًا لإتمام النصر والفتح الذي وعد الله به نبيه، وهي تمثل كذلك ختامًا لفترة من الدعوة، وبدء مرحلة جديدة من الانتشار الإسلامي. ومن بين أبرز الدلالات التي يمكن استخلاصها من السورة:
-
الرسالة الواضحة بخصوص إتمام الدين:
السورة تشير إلى إتمام الدين بعد أن انتشرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وحقق المسلمون النصر الكبير على أعدائهم. في ذلك الوقت، كان كل ما يتعلق بالدعوة قد تم، وبقيت القلة من المهام التي تتعلق بمستقبل الأمة الإسلامية بعد وفاة النبي. -
التأكيد على التوبة والاعتراف بالنعم:
كانت السورة دعوة للنبي صلى الله عليه وسلم للتسبيح والاستغفار، وهو ما يعكس التواضع الكبير، ويذكرنا بأن النصر ليس بفضل البشر وحدهم بل بتوفيق الله ورعايته. -
دلالة على نهاية حقبة وبداية أخرى:
مع نزول هذه السورة، كانت قد انتهت حقبة الجهاد والقتال مع المشركين، وبدأت حقبة جديدة من نشر الإسلام على صعيد أوسع. وقد كان هذا التحول يسبق وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بفترة قصيرة، حيث تم إبلاغه بأنه قد أكمل مهمته. -
رمزية الفتح:
الفتح هنا ليس فقط فتح مكة، بل هو فتح للقلوب والعقول في سبيل الله، فتح يسمح للناس بالاندفاع إلى الإسلام بحرية. -
السورة كإعلان للنجاح:
في هذه السورة، نزلت كلمات الله تأكيدًا على نجاح الإسلام وانتشاره، وهي لحظة من الثناء والتقدير على الجهد الكبير الذي بذله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في سبيل هذا النصر.
الخاتمة
سورة النصر تحمل في طياتها بشرى عظيمة وتأكيدًا على نجاح الرسالة الإسلامية. وهي تمثل مرحلة اكتمال الدعوة، وتُعطي رسالة واضحة للمؤمنين بأن النصر في النهاية هو بيد الله تعالى. كما أن السورة تذكر المسلمين بكيفية التعامل مع النعم والنصر: التسبيح، الاستغفار، والشكر لله. بعد نزول هذه السورة، لا شك أن الأمة الإسلامية قد دخلت في مرحلة جديدة أكثر استعدادًا للاستمرار في مسارها وفقًا للهداية التي أتم الله بها نبيه ورسوله.
