سبب نزول سورة الملك

سبب نزول سورة الملك

سورة الملك، وهي أول سور الجزء التاسع والعشرين من المصحف الشريف، تُعد من السور المكية التي نزلت قبل الهجرة، وتتميز ببلاغتها المعنوية والعقدية وعمقها في معالجة قضايا التوحيد والبعث والنشور. سُميت بسورة الملك نظرًا لاستهلالها المباشر ببيان عظمة الله سبحانه وتعالى كمالك لكل شيء، حيث تقول الآية الأولى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وقد اشتملت السورة على عدد من المضامين العقدية والكونية والإنذارية التي تهدف إلى تثبيت العقيدة في قلوب المؤمنين، وزعزعة تصورات الكفار المنكرين للبعث والجزاء. ويأتي سبب نزول هذه السورة مرتبطًا بالسياق المكي والجدل العقدي الذي ساد المجتمع آنذاك، خاصة في قضية الإيمان بالله واليوم الآخر.

السياق التاريخي لنزول السورة

عند دراسة أسباب نزول السور المكية، لا بد من الإشارة إلى أن المرحلة المكية من الدعوة الإسلامية اتسمت بالتحدي الشديد من قِبل كفار قريش، ورفضهم القاطع للرسالة المحمدية، واستكبارهم على الإيمان بالبعث والنشور، فضلًا عن إنكارهم للتوحيد الذي جاءت به هذه الرسالة. وفي هذا السياق، جاءت سورة الملك لتردّ على تلك التصورات المغلوطة، وتثبت أركان العقيدة لدى المسلمين الجدد الذين كانوا في أمس الحاجة إلى ما يعينهم على الثبات والصبر.

سبب النزول وفقًا لما ورد في كتب التفسير

لم ترد روايات خاصة توضح سببًا مباشرًا مفصلًا لنزول سورة الملك بالكامل، كما هو الحال مع بعض السور الأخرى، ولكن وردت آثار تفيد أن السورة نزلت لتؤكد على قدرة الله عز وجل على الخلق والتدبير والمحاسبة، وتكذّب أقوال الكفار الذين أنكروا البعث، وتُبشّر المؤمنين الذين يخشون ربهم بالغيب.

وقد جاء في “تفسير الطبري” و”الدر المنثور” للسيوطي أن عددًا من آيات السورة نزلت للرد على تساؤلات الكافرين وسخريتهم، كقولهم: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}، فجاء الرد الإلهي في سورة الملك موضحًا أن العلم بالساعة عند الله وحده، وأن المكذبين بها سيُفاجَؤون بها فجأة، كما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ}، مما يؤكد أن الإنسان مُنعم عليه بنعم عظيمة تستوجب الشكر لا الجحود.

تحليل موضوعي لمضامين السورة وارتباطها بسبب النزول

1. بيان ملكوت الله وقدرته على الخلق والتدبير

افتتحت السورة بالإشارة إلى أن المُلك بيد الله، وأنه هو القادر على كل شيء، في مقابل مفاهيم الوثنية والشرك التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي. وهذا من أقوى الردود على من ادّعى أن الآلهة الأخرى تشارك الله في التدبير أو الخلق.

2. الرد على المكذبين بالبعث والنشور

من أبرز السمات العقدية في سورة الملك هو تأكيدها على أن من يُكذّب بالبعث سيواجه العذاب في الآخرة، وهو ما نزل ردًا على إنكار كفار قريش لهذه الحقيقة. يقول تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}، إشارة إلى أن الله قادر على خلق الكون وتدبيره ومعاقبة المجرمين.

3. التحذير من عاقبة الغفلة والتمرد

تعرض السورة صورًا بليغة عن العذاب الأخروي الذي ينتظر أولئك الذين أعرضوا عن ذكر الله، ورفضوا الاعتراف بربوبيته. فجاءت لتخويفهم وزعزعة ثقتهم الباطلة، كما في قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ}، مما يُبرز أن السورة تحمل رسالة تحذيرية قوية، وهو من سياقات أسباب النزول التربوية التي تستهدف الإصلاح العقدي.

الأثر التربوي لسورة الملك

من خلال تتبع مضامين السورة يمكن القول إن سبب نزولها جاء لتثبيت قلوب المؤمنين أمام تحديات الكفر، ولتكون درعًا إيمانيًا في مواجهة موجات الشك التي يبثها الكفار. وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي ﷺ قوله:

“سورة تبارك هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر” – رواه الترمذي وأحمد.

وقد علق بعض العلماء على هذا الحديث بالقول إن هذه السورة تحتوي على عناصر متكاملة من التوحيد، والخوف من الله، والإيمان بالبعث، وهو ما يُعَد من أقوى أسباب النجاة في الآخرة.

خصائص أسلوبية وعقدية تؤكد سبب النزول

تتميز سورة الملك باستخدام أسلوب السؤال والجواب كأسلوب بلاغي يثير الانتباه ويُحرك العقول، مثل قوله تعالى:

{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ؟}،

وهذا النوع من الأسلوب يعزز الغرض التوجيهي للسورة، ويُظهر أنّ إنكار البعث وعدم الخشية من الله هي مظاهر من عمى البصيرة، وهو ما كانت تعاني منه البيئة القرشية الجاهلية، مما يفسّر سياق النزول والهدف التربوي منه.

الجدول التالي يوضح أبرز الموضوعات المرتبطة بسبب نزول سورة الملك:

خاتمة

تُعد سورة الملك نموذجًا قرآنيًا متكاملًا في العقيدة، والتربية، والبلاغة، وقد جاءت في سياق تاريخي يتسم بانتشار الجاهلية والإنكار، فجاء نزولها تثبيتًا للقلوب، وتفنيدًا لشبهات المشركين، وبناءً للعقل المسلم المتوازن. ورغم أن السورة لم يُذكر لها سبب نزول خاص في كتب الحديث على نحو ما ورد في بعض السور الأخرى، إلا أن سياقها ومضامينها تكشف بوضوح عن حاجتها الملحة في تلك المرحلة، مما يجعلها من أعظم سور القرآن في بناء العقيدة ومجابهة تحديات الكفر، وقد تواصل أثرها التربوي إلى يومنا هذا.

المراجع:

1. تفسير الطبري – جامع البيان عن تأويل آي القرآن.

2. الدر المنثور في التفسير بالمأثور – جلال الدين السيوطي.