سبب غياب البسملة في التوبة

لماذا لا توجد بسملة في سورة التوبة؟

سورة التوبة هي واحدة من السور البارزة في القرآن الكريم التي تحمل في طياتها العديد من الأحكام التشريعية والقرارات الهامة المتعلقة بالمسلمين والعلاقات الدولية في فترة الرسالة. لكن ما يميز سورة التوبة عن غيرها من السور هو أنها السورة الوحيدة التي لم تَبدأ بآية البسملة “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول السبب وراء ذلك. هذه المسألة تعد من المسائل القرآنية التي أُثيرت في كتب التفسير والتاريخ، وقد تناولها العلماء والمفسرون بأدلة متعددة، وفي هذا المقال سنتناول أبرز الأسباب التي وردت في تفسير غياب البسملة في سورة التوبة.

1. الترتيب الزمني والموضوعي للسورة

سورة التوبة هي السورة رقم 9 في القرآن الكريم، وقد نزلت في مرحلة متقدمة من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بعد معركة تبوك. هذه السورة تتناول العديد من الموضوعات مثل العلاقات مع المشركين، قتال الكفار، فضح المنافقين، بالإضافة إلى إظهار رفض التحالفات غير الإسلامية وأحكام النفقات في سبيل الله. كما أن سورة التوبة ترتبط بشكل وثيق بمسألة الوفاء بالعهد والوعود، وكذلك تأكيد القتال ضد من نقض العهود.

من هذا المنطلق، يُعتقد أن غياب البسملة في بداية السورة قد يكون ناتجًا عن الصرامة والجدية التي تتطلبها المواضيع التي تتناولها السورة. فقد جاءت السورة في سياق يُظهر التصعيد في المواقف القتالية والحربية، وقد نزلت بعد وقائع وأحداث كانت تتطلب في معالجتها نبرة قوية وحاسمة. لذلك، قد يكون غياب البسملة بمثابة إعلان عن صرامة الموضوع وابتعاد السورة عن التهدئة التي ترتبط عادةً بالبسملة.

2. الارتباط بسورة الأنفال

سورة التوبة في ترتيب المصحف تأتي بعد سورة الأنفال، التي هي أيضًا تتحدث عن قضايا الحرب والقتال. ومعروف أن سورة الأنفال وسورة التوبة تعتبران جزءًا من نفس السياق الموضوعي التاريخي الذي يتحدث عن التفاعلات بين المسلمين وأعدائهم في مرحلة ما بعد الهجرة. وقد تكون البسملة موجودة في بداية سورة الأنفال، لكن غيابها في سورة التوبة يعكس التفاعل المباشر والمستمر بين السورتين في معالجة المواضيع المتعلقة بالحروب والمعاهدات. يُعتقد أن القرآن الكريم، في بعض الأحيان، لا يبدأ بالبسملة بين السور المتشابهة من حيث المواضيع، لأن ذلك ينسجم مع السياق الموضوعي العام.

3. التعليل الوارد في الحديث النبوي

هناك بعض الأقوال التي أوردها علماء التفسير حول سبب غياب البسملة، مثل الحديث الذي رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه، حيث ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنها سورة قُتِلَ فيها المنافقون، وصدَّعوا صفوف المسلمين”. بناءً على هذا الحديث، يرى بعض العلماء أن غياب البسملة جاء لتعظيم الجدية والشدة التي طغت على الأحداث في تلك المرحلة.

4. اللغة القرآنية واستخدام البسملة

من ناحية اللغة القرآنية، لم يكن من الضروري أن تبدأ كل سورة بالبسملة. ففي الواقع، هناك سور أخرى في القرآن الكريم لم تبدأ بالبسملة مثل سورة التوبة. البسملة في الغالب كانت تستخدم لتوطيد التواصل مع الله سبحانه وتعالى وطلب البركة في بداية كل عمل أو مسعى، بينما السور التي بدأت بمواضيع أكثر حسمًا وحروبًا، مثل سورة التوبة، قد لا يكون من المناسب فيها بدء السورة بالبسملة نظراً لظروف السورة ومضمونها.

5. إشارة إلى الطابع العنيف للسورة

من الأسباب التي طرحها المفسرون، أن غياب البسملة يشير إلى الطابع العنيف والقاسي الذي تشمله السورة، ويعكس التحدي للأعداء والمنافقين في الأمة الإسلامية. فالبسملة، التي عادةً ما تحمل معنى الرحمة والمغفرة، قد تبدو في هذا السياق غير مناسبة، خاصة وأن السورة تتناول قضايا القتال والعقوبات لعدم الوفاء بالعهود. في هذا السياق، يعتبر غياب البسملة بمثابة تحذير من أن هذه السورة لا تحتوي على العناصر المعتادة من الرحمة أو التخفيف، بل هي توجيه صارم للرد على المخالفين.

6. اختلاف التفسير بين العلماء

تعددت الآراء بين العلماء حول سبب غياب البسملة. بعض العلماء رأوا أن السبب يعود إلى أن السورة نزلت بعد حادثة التوبة التي كانت تقتضي توجيهًا مباشرًا للخطاب دون تقديم مقدمات، بينما آخرون رأوا أن ذلك يرجع إلى أمر قرآني خاص للسورة دون غيرها. بعض العلماء اعتبروا غياب البسملة دليلاً على أن السورة كانت متصلة بالمعركة الحاسمة بين المؤمنين والكفار والمنافقين، ولا حاجة لتقديم السورة بالبسملة التي تدل على الرفق واللين.

7. السورة لا تحتاج إلى مقدمة

من وجهة نظر أخرى، يمكن القول أن سورة التوبة تعتبر نوعًا من التكملة لما جاء في السورة السابقة (سورة الأنفال)، ولذلك لا يوجد فيها حاجة لمقدمة مثل البسملة التي تحتوي على الثناء والدعاء بالرحمة. بل هي سورة تحتوي على مجموعة من الأوامر والتوجيهات الخاصة بالمسلمين في فترة ما بعد المعركة، وتشمل تحذيرات وتشريعات ترتبط بالأمن الداخلي والخارجي للمجتمع الإسلامي.

8. التفسير الوجودي للبسملة

ثمة تفسير آخر يتبنى موقفًا وجوديًا أو فلسفيًا، حيث يعتبر أن غياب البسملة في سورة التوبة جاء لتوجيه الانتباه إلى جوهر السورة ذاته، وبالتالي تبقى السورة مركزة على الرسالة التي تُقدِّمها للمجتمع المسلم. ففي بعض الأحيان، تكون البسملة في السور السابقة مقدمة لضبط المشاعر والتحضير للمعاني القادمة، لكن في هذه السورة، التي تتسم بالشدَّة، لم يكن هنالك داعٍ لذلك التمهيد، بل كانت الحاجة إلى مباشرة التوجيهات دون مقدمات تذكر.

9. الرأي النهائي والتفسير التقليدي

رغم تعدد الآراء، يمكن أن يُختتم تفسير غياب البسملة في سورة التوبة بأن القرآن الكريم هو كتاب معجز، يتضمن العديد من الحكم التي قد لا تكون واضحة دائمًا للإنسان، لكن وجود أو عدم وجود البسملة كان له دلالة دينية وأدبية عميقة. وبناءً عليه، غياب البسملة في سورة التوبة يعكس المواقف الطارئة والظروف الخاصة التي تميز هذه السورة عن غيرها، ويعطيها طابعًا مميزًا في سياق التوجيهات الدينية.

تظل سورة التوبة واحدة من السور التي تقدم عبرًا ودروسًا عديدة للمؤمنين في كافة العصور، وما تضمنته من أحكام وقيم تساهم في بناء المجتمع المسلم القوي المتماسك.