مخاطر “الجلوس المَرَضي” على المتقاعدين
تُعد مرحلة التقاعد من أهم التحولات في حياة الإنسان، حيث تبدأ رحلة جديدة ينعزل فيها الشخص عن نمط الحياة الذي اعتاده طوال سنوات عمله. ومع أن التقاعد يوفر فرصة للاسترخاء والاستمتاع بالحياة بعد سنوات طويلة من الجهد والعمل، فإن أحد أخطر الممارسات التي قد يمارسها المتقاعدون هو الجلوس لفترات طويلة، وهو ما يعرف بـ “الجلوس المَرَضي” أو “الجلوس المفرط”. ورغم أن هذه الممارسة قد تبدو بسيطة أو غير ضارة على المدى القصير، إلا أن تأثيراتها السلبية على الصحة البدنية والنفسية على المدى الطويل قد تكون كارثية، بل وقد تؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة قد تهدد الحياة. في هذا المقال، سنناقش المخاطر التي يسببها الجلوس المَرَضي على المتقاعدين من كافة الجوانب الصحية والنفسية، مع تقديم حلول عملية للتغلب على هذه المشكلة.
1. الجلوس المَرَضي: مفهومه وتأثيراته الأولية
الجلوس المَرَضي هو مصطلح يشير إلى تواجد الشخص في وضعية الجلوس لفترات طويلة بدون حركة أو نشاط بدني. وفي حالة المتقاعدين، يتزايد الوقت الذي يقضونه في الجلوس بسبب غياب الأنشطة اليومية المنظمة التي كانت مرتبطة بمواعيد العمل. هذا النمط قد يشمل الجلوس أمام التلفاز أو الكمبيوتر لساعات طويلة، أو الانغماس في الأنشطة التي لا تتطلب حركة بدنية مثل القراءة أو استخدام الهواتف الذكية.
لكن التقاعد قد يكون مرتبطًا بزيادة هذه الممارسات، حيث يفتقد المتقاعدون إلى الهيكلية التي كانت توفرها لهم بيئة العمل. وقد يشعر البعض منهم بالحاجة للاسترخاء المفرط كوسيلة للهروب من ضغط الحياة أو للتمتع بالهدوء، لكن هذا السلوك يمكن أن يؤدي إلى أضرار صحية متعددة.
2. المخاطر الصحية الناتجة عن الجلوس المَرَضي
أ. السمنة
تعد السمنة واحدة من أبرز المخاطر التي يواجهها المتقاعدون نتيجة الجلوس لفترات طويلة. عندما يقل النشاط البدني، يتباطأ حرق السعرات الحرارية، مما يؤدي إلى تراكم الدهون في الجسم. إضافة إلى ذلك، فإن الجلوس لفترات طويلة قد يؤدي إلى زيادة تناول الطعام غير الصحي كمصدر للتسلية أو التعامل مع الملل. ومع مرور الوقت، يصبح الشخص أكثر عرضة للوزن الزائد.
السمنة هي عامل خطر رئيسي للعديد من الأمراض المزمنة مثل مرض السكري من النوع 2، وأمراض القلب والشرايين، وارتفاع ضغط الدم. وهذا يعني أن الجلوس المفرط قد يزيد بشكل كبير من فرص الإصابة بهذه الأمراض في سن متقدمة.
ب. أمراض القلب والأوعية الدموية
إن الجلوس لفترات طويلة يمكن أن يؤدي إلى اضطراب في الدورة الدموية، ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. عندما لا يتحرك الجسم لفترات طويلة، يمكن أن تتراكم الدهون في الشرايين، ما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وزيادة خطر الإصابة بتصلب الشرايين، وهو من الأسباب الرئيسية للأزمات القلبية والسكتات الدماغية.
ج. مشاكل المفاصل والعظام
واحدة من أكبر المشكلات التي يواجهها المتقاعدون نتيجة الجلوس لفترات طويلة هي مشاكل المفاصل والعظام. إن قلة الحركة تؤدي إلى ضعف العضلات، مما يضغط على المفاصل، خاصةً مفاصل الركب والعمود الفقري. قد يؤدي هذا الضغط إلى آلام شديدة في المفاصل مثل التهاب المفاصل، وقد يتطور الوضع إلى حدوث مشاكل مثل انزلاق الغضاريف أو هشاشة العظام.
د. مشاكل التنفس
الجلوس لفترات طويلة يمكن أن يحد من كفاءة التنفس. عندما يبقى الشخص في وضع الجلوس لفترات طويلة، لا يتحرك الحجاب الحاجز بشكل طبيعي مما يسبب ضعفًا في التنفس العميق. هذا يضر بصحة الرئتين وقد يساهم في زيادة فرص الإصابة بأمراض الرئة مثل التهاب الشعب الهوائية المزمن.
هـ. السكري
الجلوس الطويل يقلل من حساسية الأنسولين، مما يجعل الجسم أقل قدرة على تنظيم مستويات السكر في الدم. يؤدي ذلك إلى زيادة خطر الإصابة بمرض السكري من النوع 2. الدراسات أظهرت أن الأشخاص الذين يجلسون لفترات طويلة يعانون من مقاومة الأنسولين أكثر من أولئك الذين يتمتعون بنشاط بدني.
و. السرطان
الدراسات الحديثة أظهرت علاقة بين الجلوس لفترات طويلة وزيادة خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان، مثل سرطان القولون وسرطان الرئة. يُعتقد أن الجلوس لفترات طويلة يؤثر سلبًا على عملية الأيض في الجسم ويزيد من مستويات الالتهابات التي قد تساهم في نمو الخلايا السرطانية.
3. التأثيرات النفسية للجلوس المَرَضي
أ. الاكتئاب
يمكن أن يؤدي الجلوس لفترات طويلة إلى زيادة الشعور بالوحدة والعزلة، خاصة إذا كان الشخص لا يشارك في أنشطة اجتماعية أو لا يذهب إلى أماكن ترفيهية. هذا الانعزال الاجتماعي قد يساهم في تفاقم مشاعر الحزن والاكتئاب.
عندما ينخفض النشاط البدني، تتراجع أيضًا مستويات المواد الكيميائية الطبيعية في الدماغ مثل الإندورفين والسيروتونين، والتي تساعد على تحسين المزاج والشعور بالسعادة. وبالتالي، قد يؤدي الجلوس لفترات طويلة إلى زيادة شعور المتقاعد بالإحباط والملل.
ب. القلق
إن عدم الحركة ونمط الحياة الثابت قد يزيد من مستويات التوتر والقلق. يمكن أن تؤدي هذه العوامل إلى اضطرابات النوم، مما يزيد من مستويات القلق ويؤثر على جودة الحياة.
ج. فقدان المهارات الاجتماعية
تزايد وقت الجلوس قد يؤثر على مهارات الشخص الاجتماعية. يصبح المتقاعدون الذين يقتصرون على الجلوس في المنزل بعيدًا عن التواصل الاجتماعي مع الآخرين، مما يؤدي إلى تراجع قدراتهم على التفاعل الاجتماعي. هذا الانعزال يمكن أن يزيد من الشعور بالوحدة، وبالتالي تأثيره على الصحة النفسية.
4. كيفية التعامل مع الجلوس المَرَضي: نصائح للحفاظ على الصحة
أ. إدخال النشاط البدني في الروتين اليومي
من أجل تجنب الأضرار الصحية المرتبطة بالجلوس الطويل، من الضروري أن يحرص المتقاعدون على دمج النشاط البدني في حياتهم اليومية. يمكن البدء بتمارين بسيطة مثل المشي أو تمارين الاستطالة التي تساعد على تحسين الدورة الدموية وتقوية العضلات. المشي لمدة 30 دقيقة يوميًا يمكن أن يقلل بشكل كبير من مخاطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بالجلوس المَرَضي.
ب. الاستراحة المتكررة
ينصح المتقاعدون الذين يقضون وقتًا طويلًا في الجلوس بأخذ فترات راحة متكررة. يمكن أن تكون هذه الاستراحات قصيرة، لكنها يجب أن تتضمن بعض الأنشطة مثل الوقوف أو التحرك قليلاً، مثل أخذ بضع خطوات أو القيام بتمرينات خفيفة لتمديد العضلات.
ج. النشاطات الاجتماعية
للتغلب على التأثيرات النفسية للجلوس المَرَضي، من الضروري أن يشارك المتقاعدون في نشاطات اجتماعية، سواء كانت زيارة الأصدقاء، المشاركة في النوادي الاجتماعية، أو الانضمام إلى مجموعات ممارسة الرياضة. هذه الأنشطة ليست مفيدة فقط للحفاظ على الصحة البدنية، بل أيضاً تساعد في الحفاظ على الصحة النفسية.
د. الانتباه إلى التغذية
ينبغي أن يواكب النشاط البدني الصحي نظام غذائي متوازن. يجب أن يولي المتقاعدون اهتمامًا خاصًا بتناول الأطعمة الغنية بالألياف، البروتينات الصحية، والدهون الجيدة، بالإضافة إلى تجنب الأطعمة التي قد تساهم في زيادة الوزن.
5. الخلاصة
الجلوس المَرَضي يشكل تهديدًا صحيًا خطيرًا على المتقاعدين، ويؤثر ليس فقط على صحتهم البدنية ولكن أيضًا على صحتهم النفسية. من خلال الانتباه إلى خطر الجلوس لفترات طويلة، وتبني نمط حياة نشط يتضمن التمارين الرياضية والتفاعل الاجتماعي، يمكن للمتقاعدين أن يحسنوا نوعية حياتهم ويقللوا من المخاطر الصحية التي قد يتعرضون لها.
