رمضان شهر الانتصارات العظيمة

رمضان شهر الانتصارات

يُعدُّ شهر رمضان المبارك محطةً ربانيةً عظيمة تتجدد فيها معاني الإيمان والعزيمة، وتُشحذ فيها الهمم، وتُطهّر فيها النفوس من أدران الغفلة والكسل، فهو شهر عبادةٍ وجهاد، عبادةٍ وصبر، عبادةٍ ونصر. لم يكن رمضان يوماً موسماً للخمول والانكفاء، بل كان – على امتداد التاريخ الإسلامي – موسماً للتقدم، وساحةً للبطولات، وصفحةً ناصعة تسطر فيها ملاحم الأمة الخالدة في ميدان المعارك والنفوس.

لقد سجّل التاريخ في رمضان مواقف خالدة، ووقائع عظيمة، وأمجادًا لا تمحى، تثبت أن رمضان لم يكن عبئًا على الأمة في سعيها نحو المجد، بل كان معينًا لها، يمنحها روحًا جديدة، وطاقة روحية فائقة، تجعلها ترتقي إلى ذروة الإيمان، وتحقق انتصارات لم تكن لتحققها في سواه.

الروح الإيمانية في رمضان: القوة التي لا تُقهر

رمضان هو شهر الإيمان الكامل، حيث تُربط القلوب بالله عز وجل، وتنصرف النفوس إلى الطاعات، ويُدرّب المسلم على الصبر ومجاهدة النفس. وهذا ما جعله شهرًا مناسبًا لتحرك الأمة، لا لتتراجع، ولتتقدم، لا لتنكفئ. ففيه تُروّض الشهوات، وتُكسر حدة الغرائز، ويُوجّه الجهد كله لله، وتُصبح الإرادةُ ماضيةً لا تضعف، والعزيمةُ حيةً لا تموت.

هذه الروح الإيمانية التي تتغذى من الصيام، والقيام، والقرآن، والدعاء، والصدقة، تجعل المسلم يعيش أجواءً من التصعيد الروحي، ترتقي به فوق نزعات النفس والدنيا، وتجعله مهيأً للعطاء والتضحية والثبات، فيصبح مؤهلاً للوقوف في وجه أعظم التحديات.

غزوة بدر الكبرى: أولى صفحات النصر في رمضان

كانت غزوة بدر الكبرى أول وأهم انتصار في تاريخ الإسلام، وقعت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وهي المعركة التي كانت فاصلة بين الحق والباطل. فقد خرج فيها النبي ﷺ ومعه ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً لا يملكون إلا القليل من العُدّة والعتاد، ليواجهوا جيشًا قُرشيًا يفوقهم في العدد والعدة بأضعاف.

إلا أن النصر لم يكن للعدد ولا للعدة، بل كان للفئة المؤمنة الصادقة، التي خرجت مستجيبة لأمر الله، معتمدة عليه، صابرة محتسبة. وقد وصف الله هذا النصر في القرآن بقوله:

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].

هذا النصر الرمضاني الأول لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان تأسيسًا لعقيدة الانتصار التي لا تتعلق بالماديات فقط، وإنما تستند إلى الإيمان، والثقة بالله، والتوكل عليه، وحُسن الإعداد الروحي والمعنوي.

فتح مكة: رمضان شهر الفتح الأعظم

في العشرين من رمضان في السنة الثامنة للهجرة، تحرك النبي ﷺ ومعه عشرة آلاف من الصحابة لفتح مكة، دون قتال، وكان هذا الفتح بداية التحول الجذري في الجزيرة العربية. إنه النصر الذي أنهى عهد الوثنية، وثبّت أركان الدولة الإسلامية.

كان فتح مكة تتويجًا لعهد من الصبر والكفاح، ولعشر سنوات من الدعوة والجهاد. وكان رمضانيًا بامتياز، إذ خرج فيه النبي ﷺ من المدينة في هذا الشهر المبارك، وصام هو وأصحابه معظم الطريق، وأفطروا قرب مكة مراعاة للمشقة، وكان ذلك ضمن استشعار عظمة الشهر، ورعاية أحكامه، في الوقت نفسه الذي يتهيأون فيه للفتح الأعظم.

انتصارات المسلمين في الأندلس في رمضان

لم تقتصر انتصارات رمضان على العصر النبوي، بل استمرت في العصور الإسلامية المختلفة. فمعركة الزلاقة التي خاضها المسلمون بقيادة يوسف بن تاشفين في رمضان سنة 479هـ ضد الإسبان كانت من أبرز المحطات الفاصلة في تاريخ الأندلس. فقد أوقف هذا النصر زحف الجيوش الصليبية نحو بلاد المسلمين في الأندلس، وأنقذ مدنًا كانت على وشك السقوط.

كان النصر في الزلاقة نتيجةً للإخلاص، والاتحاد بين المسلمين، والتخطيط المحكم، والصبر في الميدان، وكل ذلك في ظلال شهر الصيام، فكان رمضان حافزًا روحيًا، وصانعًا لبطولة تاريخية حقيقية.

عين جالوت: نصر رمضاني على المغول

في الخامس والعشرين من رمضان عام 658هـ وقعت معركة عين جالوت، التي أوقف فيها المسلمون بقيادة سيف الدين قطز زحف التتار الذين اجتاحوا العالم الإسلامي من شرق آسيا حتى بلغوا الشام، وأحرقوا بغداد، وأسقطوا الخلافة.

هذه المعركة كانت معركة بقاء، فإما أن تُكسر شوكة التتار، أو يُقضى على الأمة الإسلامية تمامًا. لكن الله كتب النصر فيها للمسلمين، وكان رمضان شاهداً على هذا الحدث العظيم، الذي أعاد للأمة كرامتها، ووضع حدًا للغزو التتاري الغاشم.

كان لرمضان أثرٌ كبير في شحذ همم المسلمين، ففيه ازدادت الدعوات، وتعالت التضرعات، وخالط الإيمان قلوب المجاهدين، الذين ثبتوا حتى الرمق الأخير، وحققوا النصر الخالد في يوم الجمعة، الخامس والعشرين من رمضان.

معركة حطين: تحرير الأرض في رمضان

وقعت معركة حطين في 26 من رمضان سنة 583هـ، بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ضد الصليبيين الذين كانوا يحتلون القدس وعددًا من بلاد الشام. وكانت هذه المعركة بداية النهاية للوجود الصليبي في القدس، والتي تم تحريرها بعد المعركة بثلاثة أشهر فقط، في شهر ربيع الأول.

استعد صلاح الدين لهذه المعركة بصيام وقيام، وصلاة، وإعدادٍ محكم، وكان جيشه ملتزماً، صابرًا، مجاهدًا. وقد ألهمهم رمضان معاني الصبر والتضحية والجهاد، فقاتلوا قتال الأبطال، وانتصروا انتصارًا كسر شوكة الصليبيين.

حرب أكتوبر 1973: رمضان في التاريخ المعاصر

لم يتوقف رمضان عن كونه شهر الانتصارات حتى في العصر الحديث، ففي يوم العاشر من رمضان سنة 1393هـ الموافق 6 أكتوبر 1973م، شنّ الجيش المصري والسوري هجومًا مفاجئًا على قوات الاحتلال الإسرائيلي في سيناء والجولان، محققين تقدمًا عسكريًا نوعيًا.

كان الصيام حاضرًا في الخنادق، وكان الجنود يتحملون المشقة في ظل الصيام والحر، لكن الروح الإيمانية التي بثّها رمضان في نفوسهم منحتهم قدرة على الثبات، وتحقيق مفاجآت عسكرية غير مسبوقة. وقد وصف كثير من قادة الحرب ذلك اليوم بأنه ملهم ومميز، وكأن روحًا جديدة كانت تسري في الميدان، لا تفسير لها سوى أن شهر رمضان كان شاهدًا وداعمًا.

العناصر النفسية والروحية للانتصار في رمضان

ثمة عناصر مركزية تجعل من رمضان بيئة مثالية للنصر، منها:

هذه العناصر كلها تصنع من الفرد المسلم إنسانًا قويًا، صبورًا، صادقًا، مستعدًا للتضحية في سبيل الله، وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي للأمة بما يجعلها تتحرك بروح واحدة نحو العزة والنصر.

رمضان والوعي الاستراتيجي للأمة

أحد أسباب الانتصارات الرمضانية أن الأمة كانت تدرك أن النصر لا يتحقق إلا بعد إعداد، وليس من فراغ. فغزوة بدر سبقها صبر ثلاث عشرة سنة في مكة، وفتح مكة سبقته صلح الحديبية، وعين جالوت جاءت بعد أعوام من التراجع والاحتلال.

رمضان لم يكن سببًا سحريًا للنصر، بل كان إطارًا ملهمًا، يعزز الصدق والإخلاص، ويجعل الأمة أكثر إدراكًا لمتطلبات النصر، وهو: إيمان قوي، إعداد جيد، قيادة صادقة، ووحدة صف.

إن الأمة حين تحيي رمضان بروحه الحقيقية، وتستثمر أجواءه في بناء الإنسان، وإصلاح النفس، وتطهير المجتمع، فإنها تكون قد وضعت أولى لبنات النصر الحقيقي، نصر النفس، الذي هو أساس كل نصر خارجي.

خاتمة بدون تساؤلات

رمضان ليس فقط موسم عبادة فردية، بل هو لحظة تجدد جماعية تعيد للأمة ذاكرتها الحقيقية، وتعيد ترتيب أولوياتها من جديد، فتبني على نهج النبي ﷺ وسلفه الصالح، وتفهم أن الانتصار لا يُولد في ساحات القتال فقط، بل في محراب الصيام، وسجدة التهجد، وصبر النهار، وصدق النية، وعلو الهمة. وما أحوج أمتنا اليوم إلى أن تستلهم دروس رمضان، وتنظر في صفحاته الناصعة، لتستعيد بها مجدها الذي لا يكون إلا بالإيمان والعمل والجهاد.

المراجع:

1. ابن كثير، البداية والنهاية.

2. محمود شاكر، التاريخ الإسلامي.