رسالة إلى جدتي: رحلة عبر الزمن والحب
جدتي الغالية،
أكتب إليك هذه الكلمات وأنا في عمق تفكير مليء بالذكريات، تلك الذكريات التي سكنت عقلي وقلبي طيلة سنوات من حياتي. كنتِ وما زلتِ، يا جدتي، المحور الذي يدور حوله عالمي، ومصدر الحنان الذي لا ينضب. لطالما كانت لحظاتنا سوياً، كأحلام جميلة عشتها بين يديك، مع كل كلمة نطقتها، وكل ابتسامة أضاءت وجهك.
منذ صغري، كنتِ تعلمني الحياة بطرقك الخاصة. لم تكن دروسك تلك محصورة في الكتب أو في مقاعد الدراسة، بل كانت حياة مليئة بالعبر التي استقيتها من تجاربك الخاصة، من أيامك التي عايشتها وأنتِ تزرعين بذور الحكمة في نفوسنا. لم يكن الحديث معك مجرد كلمات تُقال، بل كان يتخطى ذلك إلى حياة بأكملها كنتِ قد عشتها بكل تفاصيلها، لتُشركينا في تجاربك بكل حب وأمان.
أنتِ أول من علمتني معنى الصبر، ليس من خلال الكلمات فقط، ولكن من خلال سلوكك، وقوة إرادتك التي لا تعرف الاستسلام. كنتِ مثالاً للمرأة القوية التي وقفت أمام كل صعوبة بشجاعة، متمسكة بعزم لا يتزعزع. في كل مرة كنتِ تسردين لنا قصصك، كنتِ تزرعين فينا بذور الأمل بأن الحياة، رغم صعوبتها، تستحق العيش والتحدي.
أذكر كيف كنتِ تجلسين معنا في المساء، نحتسي الشاي معاً، نتبادل الأحاديث عن الماضي. حديثك كان ينقلك إلى عالم آخر، إلى زمن بعيد لم نكن نعيشه، ولكنك جعلتينا نراه بأعيننا من خلال كلماتك، مع كل حكاية، ومع كل نظرة حنين إلى الماضي. كانت القصص التي تحكينها عن الطفولة، وعن تلك الأيام التي كانت أبسط وأقل تعقيداً، تملأ قلوبنا بالدهشة والإعجاب. كنتِ تلمحين إلى تفاصيل صغيرة جداً في الحياة اليومية التي قد تبدو لنا عادية، لكنها كانت تحمل في طياتها جمالاً عميقاً ومعنى لا يُدرك إلا بعد أن نمر بتجارب الحياة.
لا يمكنني أن أنسى كيف كنتِ تهتمين بكل شيء من حولك. كانت يديكِ تعكف على الاهتمام بالحديقة، التي كانت بمثابة عالمكِ الخاص. كان كل زهرة وكل شجرة تروي قصة خاصة بكِ، وقد تركتِ فينا نحن جميعاً حب الطبيعة والاهتمام بأدق التفاصيل. كنتِ تعلميننا أن الجمال يكمن في الأشياء البسيطة، وأنه لا حاجة للبحث بعيداً عن السعادة، فكل ما نحتاجه هو أن نعيش في اللحظة ونستمتع بما هو موجود حولنا.
أما عن طعامكِ، فلا يمكن أن أصف مدى لذته. كنتِ تتقنين صنع الأطباق كما لو أنها لوحة فنية، كل طبق كان يحمل في طياته قصة وحكاية. كانت أيديكِ الذهبية تحول المكونات البسيطة إلى طعام شهي، وفي كل لقمة كنا نكتشف حبكِ ورعايتكِ. كان شعورنا ونحن نأكل معكِ لا يُضاهى، حيث كانت وجباتكِ تتخطى مجرد كونها طعاماً، بل كانت لحظات من التواصل الروحي معكِ، كان كل طبق يحمل بصمة من شخصيتكِ ومن جودكِ الذي لا ينتهي.
جدتي، أتعلمين؟ رغم أن الزمن يمر بسرعة، فإن وجودكِ في حياتنا هو الثابت الذي لا يتغير. لقد علمتِني الكثير عن الحياة، وعن الحب غير المشروط، وعن كيفية تحمل المسؤولية في أوقات الشدة. كنتِ تزرعين فينا الأمل حتى في أصعب اللحظات، وتعلّميننا كيف أن التفاؤل هو السبيل الوحيد لمواجهة الحياة بكل ما فيها من تحديات.
في كل مرة أواجه فيها صعوبة، أتذكر كلماتكِ التي كانت تمنحني القوة والإرادة لمواصلة الطريق. كنتِ دائمًا تقولي لي: “الطريق قد يكون طويلاً، ولكن الصبر مفتاح الفرج”. ومع مرور الزمن، أصبح هذا القول من بين أغلى الحكم التي أعيش بها، فهو يعطيني القدرة على التعامل مع تحديات الحياة بروح من الصبر والقوة.
لطالما كنتِ الملاذ الآمن لنا، يا جدتي، هذا المكان الذي نلجأ إليه في كل وقت وحين. كان لدينا دائماً اليقين بأنكِ ستكونين هنا، تمدين يدكِ لنا، وتمنحيننا الحماية والحب في كل لحظة نحتاج فيها للراحة. كنتِ تشعرين بنا قبل أن نتحدث، وتعرفين ما في قلوبنا حتى قبل أن نعبر عنه. لم يكن هناك شيء في هذا العالم يمكن أن يُقارن بمشاعر الأمان التي كنا نشعر بها عندما نكون بجانبك.
الآن، ونحن نكبر، نشعر بمرور الزمن، ولكن لا يزال حبكِ في قلوبنا ثابتاً. مع مرور السنين، بدأنا ندرك قيمة كل لحظة قضيناها معكِ، وأصبحنا نتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء لنعيش تلك اللحظات الطيبة مرة أخرى. ولكننا نعلم أن ذكرياتكِ ستظل ترافقنا طوال حياتنا، وأن حبكِ سيظل خالداً في أرواحنا إلى الأبد.
أنتِ يا جدتي لا تمثلين فقط رمزاً للحنان والاهتمام، بل أيضاً مدرسة من مدارس الحياة التي تعلمنا منها أن الحياة لا تتوقف عند أي عقبة، وأنه بالإرادة والقوة نستطيع أن نتجاوز كل التحديات. لقد كنتِ ولا تزالين الشخص الذي يملأ حياتنا بالسلام الداخلي والطمأنينة، وما زلنا نتعلم منكِ يومًا بعد يوم.
أنتِ لا تحتاجين إلى كلمات شكر أو امتنان، لأنكِ بالفعل كنتِ أفضل من علمنا، ومن ملأ حياتنا بالأمل والحب. إن حبكِ لنا هو أكبر هدية يمكن أن نتمتع بها في هذه الحياة، وسنبقى نعتز به ونحمله في قلوبنا إلى الأبد.
إلى جدتي الحبيبة، لا يمكن للكلمات أن تصف مدى حبي لكِ، ومهما قلت، لن أتمكن من إيصال كل ما أشعر به تجاهكِ. أنتِ نبع من الحنان والذكريات الجميلة، وكل لحظة معكِ كانت مليئة بالعطاء والمحبة.
أنتِ أجمل هدية منحني إياها الله، وسأظل أحتفظ بكِ في قلبي، حيث تبقى ذكرياتكِ مصدر إلهامي وقوتي.
دمتي بخير، يا أروع من علمنا الحب، وأعظم من عشنا معه.
