رحلة رجل بين الألم والتعافي

قصة واقعية للرجال فقط: رحلة في دروب الألم والانبعاث من جديد

في إحدى ضواحي مدينة عمان الهادئة، حيث تمتزج نسمات المساء برائحة الخبز الطازج المنبعثة من الأفران الصغيرة، ووسط شوارع تتراكم فيها قصص البشر دون أن يدري أحد، نشأ شاب يُدعى “معتز”، شاب في أوائل الثلاثينات من عمره، ولد في عائلة متوسطة الحال، نشأ على قيم الاحترام والاجتهاد والصبر، لكنه – مثل كثير من الرجال – دخل في معركة خفية مع الحياة، معركة لا تُرى آثارها إلا في عمق نظرته المتعبة وصمته الطويل.

البداية: ضغوط الواقع وخنق الحلم

كان معتز يعمل مهندساً مدنياً في شركة مقاولات محلية، بدأ مشواره المهني بتفاؤل كبير، يحمل بين ضلوعه أحلاماً لا نهاية لها: بناء منزل لعائلته، تأمين مستقبل كريم، وربما تأسيس شركته الخاصة ذات يوم. لكن الواقع لم يكن ناعماً كما تهيأ له. في كل خطوة يخطوها نحو الأمام، كانت الحياة تعيده خطوة للخلف.

مشاكل العمل بدأت تزداد، بيئة غير مستقرة، مدير يفتقر للعدالة، وزملاء يتنافسون بإقصاء بعضهم البعض. ومع مرور الوقت، بدأت الديون تتراكم، خاصة بعد مرض والده الذي أُصيب بفشل كلوي تطلب علاجاً طويلاً ومكلفاً. كل هذه الضغوط كانت تنحت شيئاً في داخل معتز، شيئاً لا يُرى، لكنه كان ينهار ببطء.

الصراع الداخلي: الوجه الآخر للرجل الصامت

كثيرون يظنون أن الرجل لا يشعر، أو أنه لا يتألم كما تفعل النساء، لكن معتز كان يعيش في صراع نفسي لا يظهر على وجهه، لأنه تعلم منذ صغره أن الرجولة تعني الصبر والكتمان، أن الرجل لا يبكي، لا يشتكي، لا يُظهر ضعفه.

في كل صباح، كان يخرج من منزله بوجه هادئ، وربطة عنق أنيقة، يخفي خلفها قلباً مثقلاً بالتعب، وبالليل يعود متعباً، يجلس أمام والدته محاولاً الابتسام، بينما عينيه تفضحان كمية الضياع داخله. كان يشعر أنه يختنق، أن سقف الحياة بدأ ينهار عليه دون صوت.

بدأ يعاني من نوبات قلق شديدة، فقد الشهية، وأرق مزمن، لكنه لم يفكر يوماً في زيارة طبيب نفسي. كيف له أن يعترف بأنه منهار؟ كيف له أن يقول: “أنا بحاجة للمساعدة”، في مجتمع يوصم الرجل الضعيف بالخزي؟

الانهيار: نقطة التحول

في أحد الأيام، وأثناء قيادته للسيارة بعد يوم طويل في العمل، شعر معتز فجأة بدوار شديد، تبعه فقدان للوعي، ليصحو بعدها في قسم الطوارئ بالمستشفى. أظهرت الفحوصات أنه لم يكن يعاني من مرض عضوي، بل إن الإرهاق النفسي والضغط المستمر هما من تسبب في انهياره الجسدي.

لم يكن هذا الانهيار عادياً، كان بمثابة صفعة من الحياة، تذكره بأن القوة الحقيقية لا تعني التجاهل أو التحمل حتى السقوط، بل في مواجهة الواقع بشجاعة، بما في ذلك الاعتراف بالاحتياج والدخول في مسار الشفاء.

النهوض من الرماد: التعافي والخروج من القوقعة

بعد خروجه من المستشفى، قرر معتز شيئاً لم يجرؤ عليه من قبل: حجز جلسة مع طبيب نفسي. كانت التجربة الأولى صادمة بالنسبة له، أن يجلس ويتحدث عن كل ما كتمه لسنوات طويلة، عن الخوف، والضغط، والخذلان، وفقدان الأمل.

استمرت جلسات العلاج لأشهر، واكتشف خلالها أموراً كثيرة لم يكن يدركها عن نفسه، عن سبب حاجته المستمرة للكمال، وعن مشاعره المكبوتة منذ الطفولة. أدرك أن ما يحتاجه لم يكن النجاح الخارجي فقط، بل التصالح مع نفسه، وإعادة بناء كيانه الداخلي بعيداً عن الصور النمطية المفروضة على الرجال.

بدأ يعتني بصحته النفسية كما يعتني بجسده. تعلم أن يرفض ما لا يناسبه، أن يقول “لا” دون أن يشعر بالذنب، أن يمنح نفسه مساحة للراحة، وأن يعترف أنه بشر، وليس آلة.

دعم الرجال لبعضهم: دور الأصدقاء في الرحلة

في خضم هذه المرحلة، أعاد معتز التواصل مع صديق قديم يدعى يوسف، كان يعمل معالجاً نفسياً. لعب يوسف دوراً محورياً في دعم معتز، ليس فقط بالنصح، بل بإعادة صياغة مفهوم الرجولة لديه. تحدثا عن آلام كثيرة خاضها الرجال من حولهم دون أن يلتفت إليهم أحد.

بدأ معتز يدرك أن كثيراً من الرجال يعيشون أزمات مماثلة، لكنهم يختبئون خلف الأقنعة: قناع النجاح، قناع اللامبالاة، قناع الضحك. كل واحد يحمل وجعه في صمت، لأن لا أحد علمهم كيف يُفصحون، كيف يتكلمون، كيف يطلبون المساعدة دون أن يشعروا بالخزي.

أسس معتز بعدها مجموعة دعم صغيرة عبر الإنترنت، أطلق عليها اسم “مساحة رجل”، حيث بدأ يتلقى عشرات الرسائل من رجال يعيشون تجارب مشابهة: رجال ناجحون في الظاهر، محطمون في الداخل، يتمنون فقط أن يجدوا من يستمع إليهم دون حكم.

الدروس المستخلصة من القصة

قصة معتز ليست فريدة من نوعها، بل هي صورة من صور كثيرة يعيشها الرجال في مجتمعاتنا، حيث يُنتظر منهم أن يكونوا أعمدة لا تميل، لكنهم ينسون أن الأعمدة أيضاً تحتاج إلى تدعيم.

الضغط المجتمعي على الرجل كي يكون قوياً في كل حين، يُسهم بشكل كبير في إصابته بأمراض نفسية، منها الاكتئاب، القلق، اضطرابات النوم، والعزلة. بل إن بعض الدراسات النفسية أشارت إلى أن نسبة الانتحار بين الرجال أعلى بكثير من النساء، وذلك بسبب عدم تعبيرهم عن مشاعرهم أو طلبهم للمساعدة في الوقت المناسب.

الجدول التالي يلخص بعض الفروقات النفسية والاجتماعية التي تؤثر على صحة الرجل:

الختام: الرجولة ليست في الكتمان

عندما خرج معتز من أزمته، لم يعد كما كان، بل خرج أكثر نضجاً، أكثر فهماً للحياة ولنفسه. تعلم أن الرجولة لا تعني أن تكتم كل شيء حتى تنفجر، بل أن تواجه الألم بشجاعة، أن تطلب المساعدة عندما تحتاجها، وأن تمنح نفسك الحق في الراحة، في التعبير، في السقوط، وفي النهوض من جديد.

قصة معتز قد تكون قصة كل رجل يقرأ الآن هذه السطور. قد لا نكون كلنا معتز، لكننا نحمل جزءاً من أوجاعه، من خيبته، ومن نهوضه. لأن الرجل أيضاً بشر، يحتاج أن يُسمع، أن يُفهَم، وأن يُحتضن.

المصادر

1. American Psychological Association (APA). Men and Mental Health.

2. World Health Organization (WHO). Mental Health and Suicide Rates by Gender.