راحة من الأخبار

في عالم يموج بالأحداث المتسارعة والانفعالات المتكررة، أصبحت متابعة الأخبار اليومية جزءًا لا يتجزأ من حياة الكثيرين. إلا أن التعرّض المتكرر والمستمر لسيل الأخبار، وخصوصًا السلبية منها، قد يترك أثرًا نفسيًا وعقليًا بالغًا يصعب تجاهله. من هذه النقطة انطلقت تجربتي الشخصية في “تجنب متابعة الأخبار لمدة 30 يومًا”، والتي لم تكن مجرد فترة صمت إعلامي، بل كانت رحلة داخلية لاستكشاف تأثير الأخبار على التفكير والمزاج وجودة الحياة.

الخلفية النفسية والثقافية لتدفق الأخبار

قبل الخوض في تفاصيل التجربة، من الضروري أن نفهم السياق العام لعلاقتنا بالأخبار. فمنذ اختراع الطباعة ثم الإذاعة والتلفاز، وصولًا إلى الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الأخبار تأتي إلينا دون أن نطلبها. لم نعد بحاجة لفتح جريدة أو تشغيل التلفاز، فالإشعارات وحدها كفيلة بجلب العالم كله إلى جيبنا، وغالبًا ما يكون هذا العالم مليئًا بالصراعات، الكوارث، الحروب، والفضائح.

أثبتت العديد من الدراسات أن التعرّض المتكرر للأخبار السلبية يؤدي إلى ارتفاع مستويات التوتر، القلق، وحتى الاكتئاب. وفقًا لدراسة نشرتها “جامعة ساسكس” البريطانية، فإن الأشخاص الذين يتابعون الأخبار بشكل دائم يعانون من استجابات مزمنة للتوتر بسبب كثافة المحتوى العاطفي السلبي.

بداية التجربة: يوم بدون أخبار

في اليوم الأول من التجربة، كان من الضروري قطع كل مصادر الأخبار: إلغاء متابعة الصفحات الإخبارية على مواقع التواصل الاجتماعي، حذف التطبيقات الإخبارية، الامتناع عن مشاهدة النشرات التلفزيونية أو حتى قراءة العناوين في المواقع الإلكترونية. كان التحدي الحقيقي هو مقاومة الفضول. نحن نعيش في عالم مرتبط بعمق بما يحدث حولنا، والشعور بالانفصال يبدو وكأننا نرتكب خطيئة اجتماعية.

إلا أن هذا الانفصال المؤقت بدأ يُظهر آثاره في الأيام الأولى. لاحظت أنني لم أعد أبدأ يومي بتقليب صفحات الأخبار المليئة بالمآسي والقرارات السياسية المشحونة. بل بدأت أخصص تلك الدقائق الأولى من الصباح للتأمل أو القراءة أو حتى الاستمتاع بفنجان قهوة دون ضجيج.

الأسبوع الأول: انسحاب المعلومات

الأسبوع الأول كان الأصعب. بدأت أشعر بما يشبه “أعراض الانسحاب المعلوماتي”. كنت أتساءل عما يجري في العالم، هل اندلعت حرب جديدة؟ هل هناك أزمة اقتصادية؟ هل توفيت شخصية مشهورة؟ كان عقلي يبحث عن جرعة يومية من التنبيهات والتحذيرات والمعلومات.

لكن بدلًا من الاستسلام، قررت توجيه هذا القلق نحو أنشطة بديلة: قراءة كتب ورقية، الاستماع إلى الموسيقى، المشي في الطبيعة، وممارسة الكتابة. بدأت ألاحظ أن ذهني أصبح أكثر صفاءً وأنني قادر على التركيز لفترات أطول.

الأسبوع الثاني: إعادة ضبط الحواس

في الأسبوع الثاني، بدأ ذهني يتأقلم مع غياب الأخبار. لم أعد أستشعر القلق الذي كان يرافقني عند كل إشعار. أصبحت أكثر وعيًا بما يحدث حولي على المستوى الشخصي: لاحظت أصوات الطيور في الصباح، انتبهت لتفاصيل وجوه الناس في الشارع، بدأت أستمتع بالأشياء الصغيرة التي لم أكن ألاحظها من قبل.

هذا “الفراغ المعلوماتي” أتاح لي فرصة لإعادة ضبط حواسي وتقدير اللحظة الحالية. فالابتعاد عن أخبار العالم لم يجعلني أقل وعيًا، بل جعلني أكثر حضورًا في عالمي الصغير.

الأسبوع الثالث: استعادة الاستقلال الذهني

في هذا الأسبوع، بدأت أشعر بتحوّل كبير. لم أعد أشعر بأنني “مضطر” لمعرفة كل ما يحدث. فقدت الرغبة في التحقق من الأخبار. شعرت بأنني استعدت سيادتي على أفكاري ومشاعري. لم أعد أتأثر بالحملات الإعلامية التي تصنع حالة من الذعر أو الأمل الزائف. أصبح عقلي أكثر هدوءًا، ولم يعد يتذبذب بين الخوف والغضب والتعاطف غير المجدي.

في هذا الأسبوع بالتحديد، أنجزت الكثير من الأعمال المؤجلة. شعرت بزيادة في الإنتاجية وتحسّن في النوم، وتراجعت نسبة التشتت الذهني. استعدت جزءًا من نفسي كنت قد فقدته في دوامة العناوين العاجلة.

الأسبوع الرابع: فلسفة الانفصال الواعي

مع اقتراب نهاية الثلاثين يومًا، بدأت أفكر في ماهية الأخبار من منظور أعمق. هل نحن حقًا بحاجة لمعرفة كل شيء؟ وهل هناك فرق بين المعرفة الحقيقية والمعلومة السريعة؟ هل الأخبار تُخبرنا أم تُشكلنا؟

من خلال هذا الصمت الإخباري، بدأت أفكر بفلسفة الانفصال الواعي. أن نتعامل مع العالم بمعيار الحاجة والقدرة، لا بمعيار الاستهلاك الإجباري. أي أن نكون واعين لما نختار أن نعرفه، بدل أن نسمح للعالم بأن يفرض علينا ما يجب أن نهتم به.

نتائج التجربة وتأثيراتها العامة

خروجًا من هذه التجربة، يمكن تلخيص أبرز الآثار الإيجابية في النقاط التالية:

التأثيرات السلبية المحتملة

رغم الفوائد الكبيرة، هناك بعض النقاط التي يجب التنبه لها:

• الشعور بالعزلة: قد يشعر البعض بأنهم مفصولون عن المجتمع أو أقل وعيًا بما يحدث.

• فقدان بعض الفرص: كأن تمر معلومة أو خبر مهم دون الانتباه له.

• الحاجة إلى التوازن: الانفصال التام قد لا يكون حلاً دائمًا، بل يجب أن يتم بإدراك وتنظيم.

خلاصة التجربة

في نهاية الثلاثين يومًا، لم أعد أرى الأخبار بنفس الطريقة. لم أعد أعتبرها ضرورة يومية أو وسيلة لفهم الواقع، بل أصبحت أراها كأداة تحتاج إلى استخدام عقلاني. أصبحت أكثر انتقائية فيما أقرأ وأسمع. لم أعد أتابع كل جديد، بل أبحث عن ما هو مهم فعلًا، وفي التوقيت الذي يناسبني.

إن تجربة الانفصال عن الأخبار، ولو لفترة قصيرة، يمكن أن تشكل نقلة نوعية في علاقة الإنسان بالعالم. فهي ليست مجرد استراحة من المعلومات، بل فرصة لإعادة تعريف العلاقة مع الذات والزمن والمجتمع.

المراجع

• Newport, C. (2019). Digital Minimalism. Penguin Publishing Group.

• BBC Science Focus (2020). “What does watching the news do to your mental health?”

• The Guardian (2014). “News is bad for you – and giving up reading it will make you happier”

• University of Sussex Study on News Consumption and Stress (2018)

• Pew Research Center Reports on News Consumption Patterns (2022)